كنّا محفوظين تحت الناموس
غلا ٣: ٢٣-٢٩، ٤: ١-٥
في الرسالة إلى أهل غلاطية يتكلّم القدّيس بولس عن نوعين من الحياة. النوع الأوّل هو الحياة التي يحرّكها، يغذّيها، يوجّهها الفكر الناموسيّ أو الشريعيّ، والنوع الثاني هوالحياة التي يحرّكها، يغذّيها، يوجّهها الفكر الإنجيليّ. النوع الأوّل من الحياة هو ذاك الذي كان يراه القدّيس بولس متجسّدًا ومتَّبَعًا في شريعة العهد القديم، الشريعة التي أُنزلت على موسى في جبل سيناء، والذي كان هو نفسه يتبعه ويتمسّك به حتّى التعصّب الأعمى وحتّى ملاحقة المسيحيّين كما نقرأ في رسائله وفي سفر أعمال الرسل.
هذا النوع الأوّل من الحياة، القائم على الناموس أو الشريعة اليهوديّة وعلى كلّ أنواع الشرائع والأنظمة المشابهة، في الماضي وفي الحاضر، هو مبنيّ في الواقع على فكر، على فلسفة، على نظام السيّد والعبد، مبنيّ على أساس أنّ في العالم سيّدًا أو ربًّا من جهة وعبدًا أو خادمًا من جهة أخرى. السيّد أو الربّ يشرّع، يصدّر القوانين والأنظمة والأوامر، والعبد أو الخادم إن يُطِع وينفِّذْ يكافَأْ وإن يَعْصَ ولا ينفِّذ يعاقَبْ.
هذا النوع الأوّل من الحياة يولّد لدى الناس كبتًا، انزعاجً، خوفًا، قلقًا، حتّى الثورة والانتفاضة. ولم تسلم منه المسيحيّة نفسها إذ قد عاشته ومارسته في بعض الحقبات والأمكنة والظروف فولّد حركات أو تيّارات أو أحزابًا إلحاديّة أو مشابهة متنوّعة هنا وهناك.
من الملاحظ أنّ هذا النوع من الحياة ما كان قائمًا وليس قائمًا فقط في الدين، بين الله والإنسان، بل كان وما زال قائمًا أيضًا في الدنيا، بين الإنسان والإنسان. غالبًا ما تكون علاقتنا نحن البشر بعضِنا مع بعض مبنيّةً هي أيضًا على أساس أنّ البعض منّا أسياد والبعض الآخرَ عبيد وإن كنّا لا نعلن ذلك، ونتعامل على هذا الأساس. هي ذهنيّة متجذّرة في الكثيرين منّا ونمارسها في العمل والبيت والمدرسة وغيرها. حتّى اليوم ما زلنا، على سبيل المثال، نتكلّم عن ربّ عمل وربّ بيت، ونقول عن الأسود إنّه عبد. حتّى اليوم ما زال البعض يعرّف ذاته بأنّه المهندس فلان والطبيب فلان والمطران فلان والدكتور فلان.
هل نستشفّ أو نستنتج من كلام بولس أنّ النظام أو القانون أو التراتبيّة في الحياة هي غير ضروريّة أو غير نافعة؟ كلاّ. هذه كلّها لا بدّ منها في الحياة، بل إنّ البعض يقيس رقيّ الأمم بما عندها من أنظمة وقوانين. إنّما ما يريد بولس أن يقوله هو أنّ هذه الأمور يجب أن تحرّكها ذهنيّة جديدة، عقليّة جديدة، فكر جديد. هذا الجديد هو أنّنا جميعَنا إخوة في يسوع وأنّنا جميعَنا واحد في المسيح "فلا فرق بين يهوديّ ويونانيّ، بين عبد وحرّ، بين ذكر وأنثى" كما سمعناه يقول في رسالة اليوم.
هذا هو النوع الثاني من الحياة الذي يدعو إليه بولس والمبنيّ على الإنجيل، على يسوع. ماذا نقرأ في الإنجيل؟ كيف يخاطبنا يسوع حين يكلّمنا عن الله؟ ماذا يسمّي يسوع الله حين يكلّمنا عنه؟ إنّه أبونا. ما استخدم يسوع يومًا كلمة "سيّد" أو "ربّ" في كلامه عن الله بل كلمة أب. كان يقول: "كونوا رحماء كما أنّ أباكم هو رحيم" ، "إنّ أباكم الذي في السماوات" هو كذا وكذا. وقد ثبّت هذه الحقيقة الجديدة في الصلاة الوحيدة التي علّمنا إيّاها وتركها لنا قائلاً لنا صلّوا هكذا: "أبانا الذي في السماوات...".
لكي ندرك أهمّيّة هذه الحقيقة الجديدة، أعني أنّ الله أب لا سيّد، ونعيشها في حياتنا، جعل الله الأبوّة والبنوّة في حياتنا كلّنا نحن البشر من دون استثناء، أكنّا أسيادًا أم عبيدًا. الأب السيّد أو الربّ هو، في أبوّته، كالأب العبد أو الخادم. كلاهما يشعر بالأبوّة عينها بالطريقة عينها. السيّد يحبّ أولاده كما يحبّ العبد أولاده والعكس صحيح. في هذه المحبّة يتساوى الاثنان وكلاهما يعرف ويذوق معنى هذه المحبّة.
في فكر بولس هذه هي الحقيقة الأساسيّة التي يجب أن تحرّك حياتنا وتغذّيَها وتوجّهَها. الرجل في البيت ليس ربًّا بل أب. والرجل في العمل ليس ربًّا بل أب. والمطران في الكنيسة ليس ربًّا بل أب. وقس على ذلك في مجالات الحياة كلّها. على هذا الضوء يجب أن نقرأ الإنجيل إذا أردنا أن نفهمه، إذا أردنا أن نفهم تصرّفات يسوع والأمثال التي ضربها لنا: مثل الابن الشاطر، مثل الفعلة، مثل الخروف الضالّ، إلخ... على هذا الضوء يجب أن نقرأ بولس أيضًا: " لستَ أنت بعد عبدًا بل أنت ابن ووارث". نحن لسنا أبناء لأيّ أب كان. نحن أبناء الله تعالى. والنتيجة العمليّة في حياتنا؟ فرح وسلام وفخر وقناعة واندفاع.
في إنجيل اليوم قال يسوع شيئًا مهمًّا جدًّا. قال عن المرأة المنحنية الظهر: "هذه ابنة إبراهيم التي ربطها الشيطان منذ اثنتي عشرة سنة، أما كان ينبغي أن تطلق من هذا الرباط يوم السبت؟". ابنة إبراهيم عند اليهود تعني "امرأة حرّة". على خلاف أبناء إسماعيل الذين كانوا يعتَبرون عبيدًا في العهد القديم. نحن في نظر يسوع خُلقنا أحرارًا ونبقى أحرارًا بالرغم من أنّنا نقع في عبوديّة الخطيئة والشيطان. وإذا جاء يسوع فلكي يطلقنا ويحرّرنا ممّا وقعنا ونقع فيه. كيف ذلك؟ ذلك بأن يجعلنا أبناء الله. المعادلة الجديدة عند يسوع وبولس واضحة. هي هذه: أنت ابن الله؟ أنت حرّ. أنت لست ابن الله؟ أنت عبد.
نحن جميعًا اعتمدنا باسم يسوع وصرنا أبناء الله وأحرارًا. "لقد حرّرنا المسيح لكي [ننعم] بهذه الحرّيّة. فاثبتوا إذن [فيها] ولا تعودوا ترتبطون بنير العبوديّة" (غلا ٥: ١). "لقد دعيتم إلى الحرّيّة" (غلا ٥: ١٣). لذلك نحن لا نقبل بالظلم والاستبداد والاستعباد. اليوم، على مستوى الجماعات والمؤسّسات والدول، ما زالت الشريعة اليهوديّة المتزمّتة وأمثالها قائمة في أماكن كثيرة. حكومات تسنّ قوانين مسيئة ومهينة لكرامة الإنسان، قوانين تمنع الخير من أن يحصل لا بل تسمح للسوء بأن يتفشّى. أفراد وجماعات، لا يراد لها أن تتحرّر، أن تنطلق إلى الحياة، إلى النور، إلى الفرح، إلى الكرامة. أفراد وجماعات ما زالت ترزح تحت دكتاتوريّة الشريعة والقانون التي من أسمائها العربيّة التزمّت. نحن أبناء الله. نحن أحرار. إلاّ أنّنا، مع ذلك، لا نريد أن نجعل من حرّيتنا، سببًا للخطأ، "فرصة للجسد"، كما يقول بولس، بل أن نكون "بالمحبّة خدّامًا بعضنا لبعض" (غلا ٥: ١٣)، كما يعلّمنا بولس أيضًا. لنصلِّ اليوم وفي كلّ يوم لكي نبقى جميعًا في خطّ الإنجيل وفي نهج بولس، لكي يكون لنا فكر يسوع وأخلاقه كما يطلب بولس.
أشكر وأعايد كلّ فرد من أبناء الرعيّة، الحاضرين والغائبين، وكلّ من أتى من الرعايا الأخرى. أشكر وأعايد بنوع خاصّ قدس الأب أنطون الذي يخدم هذه الرعيّة بمحبّة وحكمة وغيرة وتفان، ساهرًا على أبنائها وأحوالها وأمورها. أشكر وأعايد الوكلاء على حُسن عملهم وتعاونهم وتفانيهم. وكذلك النشاطات على تنوّعها. أشكر وأعايد المحسنين إلى هذه الكنيسة. عوّض الله عليهم أضعافًا. أشكر وأعايد أبنائي الكهنة الأجلاّء المحبوبين الذي أرادوا أن يعبّروا عن محبّتهم وتقديرهم ومعايدتهم باشتراكهم معنا في الصلاة والعيد.
أشكر معكم الله العليّ الذي أهّلنا وقدّرنا أن نشترك معًا في هذه الليترجيّا لمجده تعالى، وأستمطر على كلّ واحد منّا بركاته السماويّة.
+ جوزيف العبسيّ
كنيسة القدّيس يوحنّا الدمشقيّ، في ٢٠١٦/١٢/٠٤