الميلاد مصالحة مع الله والناس
عظة صاحب السيادة المطران جوزيف العبسيّ
في عيد الميلاد المجيد
٢٠١٦/١٢/٢٥
ورد في الكتاب المقدّس، في سفر التكوين، أنّ الله تعالى، بعد أن خلق آدم وحوّاء وأسكنهما الجنّة، لمّا رأى أنّهما تمرّدا عليه وعصيا أوامره وأكلا من شجرة معرفة الخير والشرّ التي زرعها في جنّة عدن والتي نهاهما عن أكلها، طردهما من الجنّة وأقام ملائكة وسيفًا من نار يحرسانها لكيلا يعود آدم وحوّاء فيأكلا من شجرة الحياة التي كانت هي أيضًا مغروسة في الجنّة.
هذه الرواية الكتابيّة ترمز إلى أنّ آدم وحوّاء كانا، حين خلقهما الله، يعيشان في صداقته، سعيدين خالدين. إلاّ أنّهما بأكلهما من الشجرة المحرَّمة، شجرةِ معرفة الخير والشرّ، أي بعصيانهما الله وبرفضهما أن يكون هو الخالق والسيّد، وبرغبتهما في أن يكونا هما آلهة مثله، مستقلَّين عنه، فقدا الصداقة والحياة مع الله، فصارا خاضعين للألم والتعب والشقاء والحزن والموت. ما يريد كاتب الرواية أن يقوله هو أنّ السعادة والخلود هما في العيش في صداقة الله، وأنّ الابتعاد عن الله يسبّب التعاسة والألم والموت.
لكنّ الله، وإن كان طرد أبوينا الأوّلين آدم وحوّاء من الجنّة بسبب رفضهما له، إلاّ أنّه هو لم يرفضهما إلى الأبد، لم يرذلهما إلى الأبد، بل أراد، بطردهما وإبعادهما عنه، أن يشعرا إلى حين ما الفرق بين العيش معه في صداقته والعيش بعيدًا عنه في مخالفته. فالله الذي خلقنا بفعل محبّة مجّانيّة كبيرة لا يستطيع أن لا يحبّنا. إنّ الله يحبّنا بالرغم من خطايانا وفي خطايانا، كما يقول القدّيس بولس. لذلك، ما إن خطئ آدم وحوّاء حتّى وعدهما الله بأن يرسل إليهما وإلى نسلهما مخلّصًا يخلّص البشر من التعاسة والألم والموت التي أصابتنا بابتعادنا عنه.
وكان الله لذلك يرسل من حين إلى آخر مَن يذكِّر بهذا الوعد، كان يرسل الأنبياء، الواحد تلو الآخر، ليذكّرونا بأنّ الله لم ينسَنا ولا ينسانا بل ما زال على عهده وعلى وعده بأن يرسل إلينا المخلِّص ليعيد إلينا السلام والفرح والحياة. وكيف يستطيع الله أن ينسانا وقد أكّد لنا في الكتاب المقدّس أنّه إذا نسيت الأمّ ولدها فهو لا ينسانا، وإذا كانت خطايانا حمراء كالقرمز يجعلها بيضاء كالثلج؟
ومرّت السنون والعالم ينتظر مجيء المخلِّص. إلى أن حان الوقت الذي كان الله حدّده بحكمته ومحبّته لهذا المجيء. مرّت السنون إلى أن "بلغ ملء الزمان"، كما يقول بولس الرسول، فأرسل الله المخلّص المنتظَر، "أرسل الله ابنه مولودًا من امرأة، مولودًا تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس، لننال التبنّي"، كما سمعنا في رسالة اليوم. مرّت السنون إلى أن حصل ميلاد المخلِّص المنتظَر.
كيف حصل ذلك؟ يروي الإنجيل كيف حصل ذلك. في ليلة من ليالي فلسطين الباردة، فيما كان رعاة يسهرون على قِطعانهم في نواحي بيت لحم، ظهر لهم ملاك من السماء وقال لهم: "إنّي أبشّركم بفرح عظيم، قد وُلد لكم اليوم مخلِّص، وهو المسيح الربّ". من هو هذا المخلِّص؟ إنّه المخلِّص المنتظَر الذي كان الله وعد به أبوينا آدم وحوّاء بعد أن خطئا وابتعدا عن الله. إنّه، كما يخبرنا الإنجيل، الربّ يسوع المسيح الذي وُلِد من مريم العذراء بقوّة الروح القدس: "الروح القدس يأتي عليكِ، وقدرة العليّ تظلّلك، لذلك فالقدّوس المولود منك يُدعى ابن الله".
حصل الخلاص بأن تجسّد القدّوس نفسه، ابن الله، من مريم العذراء وصار إنسانًا مثلنا في كلّ شيء ما خلا الخطيئة، كما يقول بولس الرسول. هكذا أعاد الله فتح باب الجنّة، فَتْح باب الخلاص. صفح عنّا وصالحنا نحن البشر وأعادنا إلى صداقته، إلى العيش معه في سعادة لا نهاية لها. صار الله إنسانًا في شخص ابنه الوحيد يسوع المسيح، لنصير نحن مشاركين في طبيعته الإلهيّة بالتبنّي، كما سمعنا في رسالة اليوم: "لستَ بعد عبدًا بل ابن. وإذا كنت ابنًا فأنت أيضًا وارث لله بيسوع المسيح".
هذه هي الطريقة أو الوسيلة التي استعملها الله لكي يخلّصنا. إنّها وسيلة تفوق إدراك البشر وفهمهم. كيف يصير الله إنسانًا ونصير نحن أبناء الله؟ نحن المسيحيّين نقبل ذلك بالإيمان فقط، كما قبلته مريم نفسها إذ بعد أن تساءلت كيف يكون ما أخبرها به الملاك أجابته قائلة: "ها أنا أمة الربّ، ليكن لي بحسب قولك".
من هذا المنظار الكتابيّ ميلادُ يسوع هو باب المصالحة مع الله والعودة إلى صداقته. بيسوع ابن الله المولود من العذراء مريم صرنا نحن أبناء الله بالتبنّي. لكنّ ميلاد يسوع ليس بابًا لمصالحتنا مع الله تعالى فقط، بل ميلاد يسوع هو أيضًا باب لمصالحتنا نحن البشر بعضنا مع بعض. ميلاد يسوع جعل المصالحة فيما بيننا ممكنة مهما كانت الخلافات كبيرة والنزاعات متجذّرة والحروب طاحنة. هذا ما عبّر عنه النبيّ أشعيا حين تكلّم عن مفاعيل ميلاد يسوع قائلاً إنّ الذئب يسكن مع الحمل والطفل يضع يده في جحر الأفعى وترعى البقرة والدبّ معًا، وهذا ما عبّر عنه الإنجيل بطريقة أخرى حين أخبر أنّ الرعاة والملوك التقوا معًا في المغارة في حضرة يسوع.
في عالم اليوم نشهد حركة ابتعاد عن الله ورفض له. ليست حركةُ الابتعاد والرفض هذه خاصّة بزماننا. ظهرت على مدى التاريخ، منذ البدء إلى اليوم. أناس ما عادوا يريدون أن يكون لله مطرح في حياتهم. نحترم قناعتهم ورأيهم. إلاّ أنّنا نحن المؤمنين بيسوع نعتقد بأنّ الإنسان الذي ليس لله مطرح في حياته ليس في حياته مطرح لأخيه الإنسان أيضًا، لا يستطيع أن يتصالح مع أخيه الإنسان ولا أن يعيش في سلام وفرح. نحن المؤمنين بيسوع نعتقد بأنّ صداقة الناس بعضهم مع بعض، وعيشَهم بسلام بعضِهم مع بعض، مبنيّةٌ على مقدار صداقتهم مع الله والعيش معه. العالم اليوم، وعلى مدى التاريخ، ما فتئ يكرّر ما قام به أبوانا الأوّلان آدم وحوّاء.
الاحتفال بميلاد يسوع المخلِّص هو مناسبة لنتذكّر هذه الحقيقة. بعيدًا عن الله لا مجال ولا إمكان للسلام والفرح. بعيدًا عن سيادة الله يصير الناس أسيادًا بعضهم على بعض، ويصيرون كلّهم عبيدًا لكلّ أنواع الشرّ. الاحتفال بميلاد يسوع هو مناسبة لنتذكّر أنّ الفرصة متاحة لمن يريد لكي يعيش بسلام وفرح. ابتعدنا عن الله فإذا به هو يأتي إلينا ويسكن فيما بيننا، ويحملنا على منكبيه، ويعيدنا إلى بيت الآب. صلوات العيد كلّها تدور حول هذا الموضوع، موضوع المصالحة مع الله والعودة إلى الجنّة كأبناء يعودون إلى بيت الآب.
نحن اليوم في سورية نعيش حالة واسعة من المصالحة بعد أن مزّقتنا الحرب وباعدت بين الكثيرين. الدولة السوريّة تشكر جزيل الشكر وأخلصه على عمل المصالحة الجبّار الذي تقوم به والذي يأتي ثماره يومًا بعد يومًا وخطوة خطوة. المصالحة هي الطريق الوحيد إلى عودة سورية إلى السلام والفرح والأمان والازدهار. كلّنا مدعوّون إلى أن نشارك فيها، كلٌّ على قدر طاقته وعلى حسب ما يسمح له وقته أو حاله أو وضعه. المصالحة واجب وطنيّ. المصالحة بالنسبة إلينا نحن المسيحيّين المؤمنين بنوع خاصّ هي ثمرة ميلاد يسوع. مساعدتنا وإسهامنا في هذه المصالحة يجب أن ندعّمه بالمصالحة مع الله. كلّنا مدعوّون إلى أن نتصالح مع الله تعالى لكي نتمكّن من أن نتصالح بعضنا مع بعض. عودتنا إلى الله تجمعنا وتصالحنا كلَّنا فيه. كلّما اقتربنا منه اقتربنا بعضنا مع بعض.
ميلاد يسوع أعطانا مثلاً لنقتدي به وهو أنّ الله القويّ الجبّار أخذ المبادرة وصالحنا معه. كذلك نحن على القويّ منّا أن يأخذ المبادرة ويذهب لمصالحة الضعيف. هذه ليست فضيلة فقط. إنّها أيضًا ضمانة ليطمئنَّ لها الضعيف. ميلاد يسوع تنازلٌ من الله إلى البشريّة. من دون تنازل لا تكون مصالحة. ميلاد يسوع تنازلٌ ثابت لا رجوع عنه أبدل الله فيه باسمه اسم عمّانوئيل، الله معنا. من دون ثبات واستمرار لا تكون مصالحة. لذلك تقتضي المصالحة أن نربّي على حضارة اللاعنف وأن ننشر هذه الحضارة كعقيدة وكأسلوب للبلوغ إلى السلام. إذا اقتصرت المصالحة على المتقاتلين والمتخاصمين فهي ليست كافية ولا فاعلة على المدى البعيد. علينا أن ننشّئ أولادنا عليها، يعني على المسالمة وعلى اللاعنف، في العائلة، في المدرسة، في الكنيسة، في الجامع. علينا أن نعمل على صنع القناعات وطرائق التفكير والسلوك في تعاملنا بعضنا مع بعض: عدم الانتقام، قبول الآخر، قبول الاختلاف، العمل معًا، العيش معًا. كلّ ذلك على قاعدة الحقيقة والعدالة والحرّيّة والمحبّة. اللاعنف هو الاسم الحقيقيّ للمصالحة، هو الأسلوب الذي يميّز ويطبع قراراتنا وعلاقاتنا وأعمالنا وسياساتنا. يقول البابا بندكتوس السادس عشر إنّ "اللاعنف بالنسبة إلينا نحن المسيحيّين ليس مجرّد تصرّف استراتيجي. إنّما هو أسلوب عيش وموقف لمن هو مقتنع بمحبّة الله وبقوّته ولمن لا يخاف من مواجهة الشرّ بواسطة أسلحة المحبّة والحقيقة فقط. محبّة العدوّ تشكّل نواة الثورة المسيحيّة".
تباشير السلام بدأت تلوح في الأفق. تباشير العودة إلى سورية الجنّة أخذت تلوح. ذكرى ميلاد يسوع تَزيد هذه التباشير تفاؤلاً وأملاً وعزيمة. لنصلِّ إلى الربّ يسوع ملك السلام من أجل الذين يسعون إلى السلام، من أجل الذين يبشّرون بالسلام، هؤلاء الذين أسماهم يسوع أبناء الله. لنصلِّ من أجل رئيس بلادنا سيادة الدكتور بشّار الأسد وجميع معاونيه، من أجل جيشنا الباسل الذي يسطّر النصر تِلو النصر وجميع مناصريه، من أجل الشهداء النبلاء، من أجل عائلاتنا، من أجل أطفالنا، من أجل شبابنا. لنصلِّ من أجل إخوتنا المواطنين الذين ما زالوا في خطر، في ضيق، في جوع وعطش، في العراء بلا مأوى، ينتظرون ساعة الخلاص. لنصلِّ فبالصلاة نَشرع في طريق المصالحة والسلام.
أعايدكم وأهنّئكم جميعًا فردًا فردًا، وأرنّم معكم ترنيمة المصالحة الخالدة: "المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرّة".