عيد الظهور الإلهي المعروف بعيد الغطاس
الأرشمندريت أنطون هبّي
المسرّة، كانون الأول ١٩٨١
١- معنى العيد
يذكّرنا هذا العيد بظهور الكلمة المتجسد العلني للعالم لأول مرة. قال القديس ايرونيموس: "في الميلاد أتى ابن الله إلى العالم متخفِّياً، أما في المعمودية فقد ظهر علناً للعالم". وأعاد القديس يوحنا فم الذهب الفكرة نفسها بأكثر وضوح: "لم يعرف الشعب يسوع قبل المعمودية، وأمّا في المعمودية فقد ظهر للجميع"، (العِظَة ٣٧ عن العماد).
ويسمّى هذا العيد باليونانية "تيوفانيا" أي "ظهور الله" بأقانيمه الثلاثة. وقد أُطلق عليه في بلادنا العربية اسم "الغطاس" نظراً إلى ما يجري في المعمودية أي التغطيس في الماء. وتُستعمل كلمة "تيوفانيا" بالجمع للدلالة على الظهورات الالهية المختلفة للبشر في أقنوم الكلمة المتجسد: مولده، إعلانه للرعاة، دعوة المجوس إليه، وخصوصاً معموديته في الأردن وظهور الثالوث الأقدس.
في الميلاد أعلن خصوصاً ناسوت المسيح؛ أمّا في المعمودية فقد أُعلن ملء الاله الحقيقي والإنسان الحقيقي مع الاتحاد بالآب والروح القدس. أعلن الآبُ من علو السماء محبَّتَه وانشراحَه بابنه المسيح: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت" (متى ٣: ١٧)؛ والروح القدس نزل عليه بشكل حمامة وكرَّسه ومسحه علناً. وهذا ما تفوَّه به يسوع نفسه في مجمع الناصرة عندما أورد آية اشعيا النبي: "إن روح الرب عليَّ ولأجل ذلك مسحني وأرسلني لأُبشِّر المساكين وأشفي منكسري القلوب" (لوقا ٣: ١٨). إن يسوع بكونه إنساناً يخص الله كسائر البشر، ولذا خضع كليّاً في مطلع حياته العلنية ورسالته الخلاصية لإرادة الاب، فأرسل عليه الروح القدس ليمسحه علناً ويرشده في رسالته الخطيرة. لذلك يقول بوسّويه: "دُعي المخلص يسوع "ممسوح ومسيح" بكل حق نظراً إلى هذه المسحة الإلهية العجيبة". ويتبادر إلى ذهننا أن نقارن بين صوت الآب الآتي من السماء وتلك الآية لأشعيا النبي: "هوذا فتاي الذي اخترته، حبيي الذي سُرّت به نفسي. أُحلّ روحي عليه فيخبّر الأمم بالحق" (متى ١٢: ١٨).
يدعى عيد الغطاس "عيد النور" لأن "الشعب الجالس في الظلمة أبصر نوراً عظيماً" (متى ٤: ١٦). فيسوع هو نور العالم. "ان المسيح إلهنا الذي هو نور من نور، نقول في صلاة الباكرية (١)، ظهرَ وأشرقَ للعالم...". لقد جمع يسوع بمعموديته، ذلك الحدث التاريخي المجيد، العالمَيْن: العالم السماوي والعالم الأرضي. نقول في صلاة مساء العيد: "اليوم تستنير الخليقة. اليوم يُسرّ الجميع، السماويات والأرضيات معاً. الملائكة والبشر يتّحدون، لأنْ حيث يكون الملك فهناك يكون الانتظام. فلنبادرنَّ إذاً جميعاً إلى الأردن، لنعاين يوحنا كيف يعمّد الهامة غير المصنوعة بيد، المنزَّهة عن الخطأ، مرنمين بلهجة رسولية، وأصوات متفقة هاتفين: لقد ظهرت نعمة الله المخلّصة كل البشر، منيرة المؤمنين ومانحة الرحمة العظمى". فالمعمودية استنارة الانسان وولادته لمعرفة النور الإلهي. كان الموعوظون قديماً يتقبّلون سرّ المعمودية المقدّس باحتفال مهيب ليلة العيد، كما هي الحال في عيد الميلاد والفصح والعنصرة: فتتلألأ الكنيسة بالأنوار، رمز نور المعرفة الالهية الذي يخترق نفس لإنسان المعتمد.
لم تكن معمودية يوحنا سوى "معمودية التوبة لغفران الخطايا" (لوقا ٣: ٣)، ليس لها مفعول المعمودية المسيحية التي تنقّي النفس من أدران الخطيئة كلها وتشرك الإنسان بالحياة الإلهية في هذه الدنيا وفي الآخرة. أمّا يسوع فلم يكن بحاجة إلى التوبة، فهو البريء من كل خطيئة و"يفوق كل ما في هذا العالم" فضيلة وقداسة. فتناديه الكنيسة ليلة العيد: "أيها المسيح الإله، إن يوحنا لمّا رآك وافداً عليه في نهر الأردن هتف قائلاً: "كيف أقبلتَ نحو العبد، أيها الرب الذي لا خطيئة فيه؟ فباسم من أُعمّدك؟ أباسم الآب؟ لكنك تحمله في ذاتك؛ أباسم الابن؟ لكنك أنت هو بالجسد، أباسم الروح القدس؟ لكنك قد عرفت أن تمنحه للمؤمنين بك. فيا أيها الإله الذي ظهر ارحمنا".
إنّ معمودية يوحنا تُعِدّ بالتوبة لملكوت المسيح الذي سيعلنه يسوع؛ والتوبة شرط أساسي للدخول في هذا الملكوت. لم يعرف المخلص الخطيئة مطلقاً إنما أراد أن يحمل خطايا البشر ويقوم علناً بفعل توبة باعتماده من يوحنا، ليعلّمنا التواضع والتوبة وإصلاح الذات. كانت معمودية يسوع عَنصرته الشخصيّة، فحلَّ الروح القدس عليه وظهر الثالوث المقدس: "باعتمادك يا رب في نهر الأردن، يقول نشيد العيد، ظهر السجود للثالوث، لأن صوت الآب كان يشهد لك، مسمِّياً إيّاك ابناً محبوباً، والروح بهيئة حمامة يؤيّد حقيقة الكلمة. فيا من ظهرَ وأنار العالم أيها المسيح الإله المجد لك". يأخذ سرّ المعمودية المسيحية إذاً قوّته ومفعوله من ملء الثالوث الأقدس: "يُعمّد عبد الله... باسم الآب والابن والروح القدس".
٢- التهيئة للعيد
تُعِدّ الكنيسة البيزنطية المؤمنين لعيد الظهور الإلهي بتقدمة تدوم أربعة أيام ابتداءً من ٢ كانون الثاني. فتنشد البيعة في الأيام الثلاثة الأولى هذا النشيد الذي يحوي الفكرة الرئيسية للتقدمة، الاستعداد لمعمودية المسيح الذي سيجدّد الخليقة: "استعدّي يا زبولون، وتأهّبي يا نفتاليم (٢). وأنت يا نهر الأردن، قف واستقبل بطرب السيّد الآتي ليعتمد. إجذل يا آدم مع الأم الأولى، ولا تختبئا كما في الفردوس قديماً. فانه لما رآكما عاريَيْن ظهر ليلبسكما الحلّة الأولى. لقد ظهر المسيح مريداً أن يجدّد الخليقة كلّها".
وفي اليوم الرابع للتقدمة (٥ كانون الثاني) المسمّى البارامون، ترغب الكنيسة إلى المؤمنين أن يصوموا إلى الظهر وينقطعوا عن أكل الزفر تهيئة للعيد بالصلاة وإماتة الجسد، وتضيع على أفواههم نشيد البارامون وفيه إشارة إلى فعل المعمودية في النفس وتقديس المياه التي كانت بفعل الطوفان رمز الموت وصورته، وقد تحوّلت بمعمودية المسيح إلى "ينبوع ماء ينبع إلى الحياة الأبدية" (يوحنا ٤: ١٤): "ان نهر الأردن قد تراجع يوماً برداء أليشع، بعد أن ارتفع إيليا، وانغلقت المياه إلى هنا وهناك، وصار له الرّطبُ طريقاً يابساً، فكان ذلك حقاً رمزاً للمعمودية التي نعبر بها سبيل العمر الزائل. المسيح ظهر في الأردن ليقدّس المياه".
٣- تاريخ عيد الظهور الإلهي
عيد الظهور الإلهي من أبرز أعياد الرزنامة الطقسية البيزنطية. احتفَلَ به أولاً في مصر، على الأرجح، الهراطقة الغَنوصيّون المعروفون باسم "الباسيليديّين" (نسبة إلى باسيليد الاسكندري المؤسس الأول للمدرسة الغنوصيّة في مصر+ ١٣٠)، فأحيوا ذكرى مولد المسيح ومعموديته معاً، على حسب عادة الكنيسة القبطية اليوم (٧ كانون الثاني) والكنيسة الأرمنية ٦ كانون الثاني). وانتهجت كنيسة القدس النهج نفسه حتى القرن السادس، تاريخ فصلها الاحتفال بالحدثين (٣). أما انطاكية فقد نقل القديس يوحنا فم الذهب سنة ٣٨٦ الاحتفال بذكرى مولد المسيح إلى ٢٥ كانون الأول وجعله عبداً مستقلاً عن عيد الظهور الإلهي في ٦ كانون الثاني. وقد ادخل إلى القسطنطينية، هو نفسه على الأرجح، الطريقة نفسها التي جرى عليها في انطاكية، وذلك بين ٣٩٨ و٤٠٢.
أما روما فقد احتفلت بمولد المسيح على حِدَة في ٢٥ كانون الأول منذ سنة ٣٥٤، وعيّدت لذكرى معمودية المسيح وسجود المجوس ومعجزة قانا الجليل، حيث حوّل يسوع الماء خمراً، في ٦ كانون الثاني. إن الصلة بين حدثي قانا والأردن هو عنصر الماء.
إن نشأة عيد الظهور والاحتفال به في ٦ كانون الثاني يحيط بهما الغموض. والشرح الأرجح والكثير التعقيد هو الذي أورده أحد رهبان الكنيسة الشرقية (٤): "ولقد توحّد في البدء الاحتفالُ بمولد المسيح ومعموديته. فجعل بعض الشرقيين عيد مولد المسيح في ٦ كانون الثاني لاعتقادهم أن الحبل بيسوع تمَّ في ٦ آذار، فيكون مولده بالتالي في ٦ كانون الثاني (على نحو الحساب بين ٢٥ آذار و٢٥ كانون الأول للحصول على تسعة أشهر). فإلى أي أساس أسندوا تاريخ الحبل بيسوع في ٦ اذار؟ فقد لجأوا إلى تفكير دقيق جامح: فقد زعمت هذه الأوساط الشرقية- التي تنتمي بقليل أو بكثير إلى شيعة الموننانيِّين الذين يعتقدون بقرب ظهور المسيح- إن مدة حياة يسوع الأرضية لا بدّ من أن تتفق مع عدد كامل لأن الجزء، لكونه غير كامل، لا يرضي مقتضيات رمزيتهم الصوفية. فلو افترضنا أن يسوع عاش عدداً كاملاً من السنين لوَجب أن يتفق تاريخ موته مع مولده. ولذا احتفل هؤلاء المسيحيون بموت المسيح وقيامته في ٦ نيسان. وقد اعتمدوا تاريخ ٦ نيسان لأنه يوافق البدر الأول لأول شهر يلي ٢٤ آذار، وهو على حسب زعمهم الاعتدال الربيعي وذكرى خلق العالم، لأن الله خلق العالم في الاعتدال الربيعي"!...
٤- عيد الظهور الإلهي في الايقونوغرافية البيزنطية
تعبِّر إيقونة عيد الظهور الإلهي عن نصوص الإنجيل وبعض التفاصيل المقتبسة من قانون العيد. فزى في وسط اللوحة الأردنّ بلونه "الأزرق- الأخضر" أو الأزرق الشاحب ينساب كالأفعوان بين الصخور، ويسوع منتصباً في وسطه عارياً أو مؤتزراً بمنشفة. انه متّشح بعَراء آدم، ليعيد إليه ثوب الفردوس والحلّة الأولى، ينظر مواجهة متجهاً نحو المعمدان ليتقبّل منه معموديّة التوبة، ويبارك المياه بيمناه.
يجابه يسوع منذ بدء رسالته عناصر العالم المادي، وقد عششت فيها قوى الشر والظلام (٥): "ان الرب، ملك الدهور، قد أعاد في مجاري الأردن جبلة آدم الفاسدة وسحق رؤوس التنانين المعشّشة هنالك..." (من صلاة السحر). لقد قدّس يسوع المياه وكانت من قبله صورة الموت، فأصبحت بمعموديته ينبوع نِعَم "وماء بتفجّر حياةً أبديّة" (يوحنا ٤: ١٤).
أمّا يوحنا السابق الصابغ، الممثّل تارة على ضفّة النهر اليمينية وطوراً على الضفّة اليسارية، فقد وضع يده اليمنى على هامة المخلص، وبإشارة من يده اليسرى يعبّر عن عدم أهليته لتعميد يسوع: "أنا المحتاج أن أعتمد منك وأنت تأتي إليّ!". فيوحنا هو الشاهد الأكبر على ظهور المسيح، والمهيّئ لمجيئه، والكارز البليغ ذو الكلمة المؤثّرة النزيهة، وأول من أوجد رسلاً ليسوع عندما رآه فقال لتلميذيه يوحنا وأخيه اندراوس: "هوذا حمل الله"، فتركاه للحال، وتبعا يسوع حتى النهاية.
أما على ضفة النهر الأخرى المواجهة للمعمدان فنرى ثلاثة ملائكة (اثنين أحياناً) ينظر اثنان منهم إلى الرب بتهيّب واحترام وسجود، والثالث ينظر مصغياً إلى السماء، ويحمل الثلاثة على أيديهم منشفة أو قطعة نسيج ويستعدّون لتنشيف جسد المسيح لدى صعوده من الماء. ونرى على رؤوس أشخاص الايقونة هالة نور، إلاّ ان هالة المسيح كُتبت عليها الأحرف باليونانية الثلاثة OWN، ومعناها الكائن، إشارة إلى أقنومه الالهي؛ وتحوم فوق رأسه حمامة تحيط بها هالة نور في أكثر الأحيان. وفي أعلى اللوحة غيوم بيضاء أو قاتمة اللون تتفرّع منها أشعة نور مسلّطة على المخلص، رمزاً إلى الصوت الآتي من السماء: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت" (متى ٣: ١٧).
أمّا في أسفل اللوحة فنشاهد شيخاً مرتعشاً منغمساً في مياه النهر يُفرغ جرّة ماء، تعليقاً على الآية ٣ من المزمور ١١٣ "البحر رأى فهرب والأردن رجع إلى الوراء". وفي النهر أيضاً امرأة متوّجة تمسك بيدها اليسرى صولجاناً وتمتطي تنيناً، وتشير بيدها اليمنى إلى المسيح المعتمد، هي رمز النفس التي تطهرت بماء العماد المقدس وانتصرت على الشرّ. ويرى البعض في الامرأة رمز البحر الهارب أيضاً. ويرسم المصور أحياناً سمكاً يسبح في النهر وحيّة مائيّة ليعطي المياه حيويّة أكثر. وهنالك عند أقدام السابق شجرة صغيرة بدون فأس: "ها إن الفأس قد وضعت على أصل الشجر، فكل شجرة لا تثمر ثمرة جيدة تقطع وتلقى في النار" (متى ٣: ١٠).
يبدو جسم المسيح في بعض الايقونات مغموراً بالمياه، رمزاً إلى الدفن وموت الإنسان العتيق في العماد. وهذا ما يشير إليه التغطيس في رتبة العماد بحسب الطقس البيزنطي، "ان كل ما اصطبغ منا في يسوع المسيح اصطبغ في موته، فدفنّا معه بالمعمودية للموت، حتر، إننا كما أُقيم المسيح من بين الأموات بمجد الآب، كذلك نسلك نحن أيضاً في جِدّة الحياة" (رومية ٦: ٣- ٥). أمّا الصعود من الماء بعد التغطيس فيشير إلى القيامة والحياة الجديدة مع المسيح: "أنتم الذين بالمسيح اعتمدتم المسيح قد لبستم" (غلاطية ٣: ٢٧). وتترنم البيعة المقدسة بهذه الآية كأُنشودة مجد وانتصار على الشرّ، كلّ مرة تمنح سرّ العماد، لتذكّر المسيحيين بالشرف العظيم الذي نالوه بسرّ التنقية، وبالواجبات المقدسة التي يمليها عليهم.
الحواشي
(١) إنّ الصلوات الواردة في هذه المقالة تعود إلى الطقس البيزنطي اليوناني.
(٢) الأراضى الواقعة غربي بحيرة طبريّا والتي كانت تقطنها قبيلتا زبولون ونفتاليم.
(٣) قال بول افدوكيموف في حاشية كتابه الفرنسي "فن الايقرنة"، صفحة ٢٣٩، ان فصل الاحتفال بالحدثين تمَّ في انطاكية سنة ٣٢٦ خلافاً لما عرف عن القديس يوحنا فم الذهب.
(٤) L an de grace du Seigneur, par un moine de ١ Eglise d Orient, tome I, p. ١٤٧.
(٥) عاصر العالم المادي هي: الماء والخواء والأرض أو الصحراء والنار.