كلمة غبطة البطريرك غريغوريوس الثالث
في الصلاة الجنائزيَّة
لراحة نفس المثلَّث الرحمة المطران إيلاريون كبوجي
النائب البطريركي ومطران القدس في المنفى
نجتمع معًا في هذه الصلاة الجنائزيَّة الخاشعة لكي نُودِّع معًا فقيدنا الغالي المثلَّث الرحمة المطران إيلاريون كبوجي، النائب البطريركي العام ومطران القدس. إنَّه فقيد حلب الشهيدة المُنتصِرة. وهو فقيد الرهبانيَّة الحلبيَّة المُباركة. وفقيد كنيسة بطريركيَّة الروم الملكيين الكاثوليك. وفقيد القدس عاصمة إيماننا. وفقيد فلسطين. وفقيد المقاومة والحريَّة والكرامة.
وهو أخي. وقد جاهدنا معًا في فلسطين منذ عام ١٩٧٤. فكان هو في سجن الشهامة والإباء والعزة، وأنا كنتُ أسيرُ بهدي إيمانه وقوَّة معنوياته. وأكملتُ عمله في تزيين الكاتدرائيَّة في القدس وإعادة تأهيل وتطوير الدار البطريركيَّة بالقدس. كما كنتُ أتابع رسالته في المحاضرات شبه اليوميَّة التي كنتُ مِن خلالها ألتقي بالحجَّاج من أقطار العالم. وأكلِّمهم عن شخصية المطران كبوجي ومعنى وأهميَّة وفرادة التزامه القضيَّة الفلسطينيَّة العالميَّة. وما قاساه ويُقاسيه في سبيلها. وأحسَبُ نفسي من خريجي مدرسة المطران كبوجي.
فقيدنا من مواليد حلب الشهباء ١٩٢٢/٣/٢. وهو راهب من الرهبانيَّة الباسيليَّة الحلبيَّة. رُسِمَ كاهنًا عام ١٩٤٧ وكان رئيس الرهبانيَّة الباسيليَّة الحلبيَّة (في الأعوام ١٩٦٢-١٩٦٥). وبهذه الصفة شارك في المجمع الفاتيكاني الثاني (١٩٦٢-١٩٦٥). وهو المطران الأخير بين مطارنة كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك الذين شاركوا في المجمع المذكور. رُسِمَ مطرانًا عام ١٩٦٥ عن يد المثلَّث الرحمة البطريرك مكسيموس الرابع الصائغ، وساعده في الرسامة الأسقفيَّة المثلَّث الرحمة المطران جاورجيوس حكيم مطران حيفا والناصرة وسائر الجليل، لاحقًا البطريرك مكسيموس الخامس. وقد عَيَّنَه نائبًا بطريركيًّا عامًا في القدس الشريف خلفًا للمثلَّث الرحمة المطران جبرائيل أبو سعدى عام ١٩٦٥. وفي شهر آب ١٩٧٤ اعتُقِلَ مِن قِبَل سلطات الاحتلال الإسرائيلي وسُجِنَ وحُكِمَ عليه بالسجن اثنتي عشرة سنة. قضى منها في السجون الإسرائيليَّة في زنزانة ضيِّقة منفردة ثلاث سنوات. وعلى أثر وساطة المثلَّث الرحمة البابا بولس السادس ورؤساء الكنائس في القدس خرج من السجن في ٦ تشرين الثاني ١٩٧٧ وكنتُ في استقباله في مطار روما. وعيَّنه على الأثر المثلَّث الرحمة البطريرك مكسيموس الخامس زائراً رسوليًّا على الروم الكاثوليك في أوروبا الغربيَّة حتى عام ١٩٩٩. كما أنَّه بقي في وظيفته نائبًا بطريركيًّا للقدس. وقد قرَّرتُ أن يبقى نائبًا بطريركيًّا للقدس مدى الحياة ولا يخضع لنظام الاستقالة المفروضة على المطارنة لدى بلوغهم السِن الخامسة والسبعين. وقد طلبتُ من المثلَّث الرحمة غبطة البطريرك مكسيموس الخامس حكيم أن يؤخِّر رسامتي مطرانًا سبع سنوات احترامًا لأخي وصديقي المطران كبوجي.
وبعد نَفيه من القدس بقي في المنفى في روما. ولم يزر البلاد العربيَّة إلا بعد انقضاء مدة محكوميته ١٢ سنة. وذلك عام ١٩٨٦. وكانت أوَّل زيارة له إلى سوريا حيث استُقبِل استقبال الأبطال.
أيها الأحباء، هذه هي نبذة من حياة فقيدنا الغالي. المطران إيلاريون راهب حلبي. والراهب ينذر حياته كلّها للرب من خلال نذوره الثلاثة. وفقيدنا كان نذره الآخر الوحيد الكبير فلسطين. فمنذ أن عُيِّنَ نائبًا بطريركيًّا في القدس عام ١٩٦٥، أصبح رمزاً للقضيَّة الفلسطينيَّة. ونذر حياته لخدمة الفلسطينيين في الوطن وفي أمكنة نزوحهم في البلاد العربيَّة وفي العالم أجمع. وأصبحت قضيَّة فلسطين قضيَّته. وقد أعلن في خطابه الشهير في مدرسة الروم الكاثوليك في بيت حننيا أنَّ أرض فلسطين هي الأم لكلِّ أبنائها. وقد ألهب هذا الإعلان مشاعر الفلسطينيين. وبدأت المناورات لأجل القبض عليه وسجنه، حيث تمَّ ذلك أولاً صبيحة اليوم الثامن من آب ١٩٧٤، ثمَّ نهائيًّا يوم ١٩ آب ١٩٧٤. ثُمَّ جرت محاكمته في القدس وحُكِمَ عليه بالسجن اثنتي عشرة سنة.
إنَّ فقيدنا هو حقًّا بطل القضيَّة الفلسطينيَّة. وبقي يُدافع عنها حتى آخر رمقٍ من حياته. وبقي يُلقي المحاضرات متنقلاً في بلدانٍ كثيرةٍ عربيَّةٍ وأوروبيَّةٍ يَحمِل عَلَمَ القضيَّة وحقوق أبنائه الفلسطينيين مسلمين ومسيحيين بكلِّ جرأةٍ واعتزازٍ وبفصاحته المشهورة بالعربيَّة والفرنسيَّة.
وكم كان يُردِّد رغبته في العودة إلى فلسطين ليلتقي بأبنائه الفلسطينيين، ليكون قريبًا إليهم ويُشاركهم في آلامهم ومُعاناتهم. وكم بذل من الجهود لأجل تأمين المساعدات على أنواعها لدعم المؤسَّسات الفلسطينيَّة، لاسيما الاجتماعيَّة في القدس والضِفَّة الغربيَّة.
وأصبح رمزاً للقضيَّة الفلسطينيَّة وعَلَمًا خفَّاقًا لها. وقد حاولتُ إبَّان خدمتي في القدس، أن أُرتِّب له زيارة للقدس حبيبته، ولكن دون جدوى. وقد سُمِحَ للكثيرين من المُناضلين أن يعودوا إلى القدس، ولكن ليس له، لأنَّ عودته تعني الكثير الكثير محليًا وعالميًا.
إنَّ نضال وجهاد وتضحيات فقيدنا الغالي المطران إيلاريون فخرٌ لفلسطين ولسورية وطنه وللبلاد العربيَّة. وفخر لكنيسة الروم الملكيين الكاثوليك. ولا بُدَّ لنا ونحن نودِّعُ هذا المجاهد الكبير أن نذكر مطرانَين سبقاه في الدفاع عن القضيَّة الفلسطينيَّة: المثلَّث الرحمة المطران غريغوريوس حجّار (١٩٠١-١٩٤٠) مطران عكا وحيفا والناصرة وسائر الجليل الذي استشهد في ظروفٍ غامضةٍ عند عودته من القدس إلى حيفا بعد أن شارك في مؤتمرٍ لدعم القضيَّة الفلسطينيَّة؛ والمثلَّث الرحمة المطران جبرائيل أبو سعدى ابن بيت ساحور (قرب بيت لحم) النائب البطريركي العام في القدس (١٩٤٦-١٩٦٥). لا بل نقول إنَّ الدفاع عن القضيَّة الفلسطينيَّة هو من تراث كنيسة الروم الكاثوليك. وقد تمَّيز الكثير من أساقفتها بدعم القضيَّة الفلسطينيَّة والقضايا العربيَّة عمومًا. لا بل إنَّ الكنيسة الكاثوليكيَّة لا سيما بشخص الباباوات هي الاكثر دعمًا وإخلاصًا للقضيَّة الفلسطينيَّة، وأعتبَرَ البابا فرنسيس أن العدالة للفلسطينيين مفتاح السلام (عمّان ٢٤ أيّار ٢٠١٤).
وكان فقيدنا الراهب الحلبي والمطران المناضل، رجل صلاة وروحانيَّة راسخة. ودخل الزنزانة المنفردة يوم الأحد ٢٦ كانون الثاني ١٩٧٥. وفيها سرير وطاولة صغيرة عليها الإنجيل المقدس والكأس والصينيَّة. وكان يحتفِل بالقداس الإلهي يوميًّا، ويُقيم الصلوات الطقسيَّة ويُطالع في ما تيَسَّر له من الكتب. ولا أزال احتفظ بالورقة حيث التوقيت اليومي الدقيق الذي يُنظِّم بدقة ساعات نهوضه وصلواته وكل تفاصيل حياته.
من هذه الزنزانة كان يتواصل مع رؤساء الدول العربيَّة بطريقةٍ بقيت خافية على مدير السجن! زياراتي شبه الأسبوعيَّة له في زنزانته كانت تدوم بين الساعتين والثلاث ساعات. وكانت جلساته دوراتٍ ودروسًا في الروحانيَّة الإنجيليَّة والوطنيَّة والقوميَّة والتقوى والصبر والتسليم لإرادة المخلِّص السيِّد المسيح، والثقة بالله. وكانت كلمته المأثورة: الله يُمهِل ولا يُهمِل. وكان هو يُشجِّعنا ويَشحننا بالمعنويَّات العاليَّة. وكان زوَّاره محليين وعالميين، رجال دين وسواهم، يخرجون منذهلين من قوة إيمانه وعزيمته.
وخرج من سجنه بكامل ثيابه الأسقفيَّة وقبَّل أرض فلسطين لآخر مرَّة قبل أن يستقِلَّ الطائرة إلى روما يوم السادس من تشرين الثاني ١٩٧٧. وكان برفقته المثلَّث الرحمة المطران مكسيموس سلوم والسفير البابوي. وكنت قد سبقته مع غبطة المثلَّث الرحمة البطريرك مكسيموس الخامس حيث استقبلناه مع الجالية الفلسطينيَّة في مطار روما.
فقيدنا الغالي هو رجل إيمان وصلاة. وكما قال: إنَّه سوري المنشأ. فلسطيني الكفاح. عربيّ الهوية. المطران كبوجي كان سلاحه الصلاة والمعنويات العالية ويُمثِّل الصِدقَ والإخلاص للقضيَّة الفلسطينيَّة. إنّه شخصيَّة فلسطينيَّة سوريَّة عربيَّة شاملة. نحتاج إلى كبوجي اليوم كما في الأمس. ونحتاج إلى أمثاله في الدفاع بصدقٍ وإخلاصٍ عن القضيَّة الفلسطينيَّة أُم القضايا العربيَّة، لا بل العالميَّة.
إنَّنا نودِّعُ هذا الحبرَ الجليل مع صلواتنا المُقدَّسة. وهي وصفٌ لحياةِ وروحانيَّةِ فقيدنا الغالي الجليل: "مجِّدْ أيها المُخلِّص في ملكوت السماوات هذا الذي عاش على الأرض كما يليقُ برؤساء الكهنة بإيمانٍ ورجاءٍ ومحبةٍ. وعبادةٍ مُستقيمةٍ. وتجرُّدٍ واتضاعٍ وغيرةٍ رسوليَّةٍ وسيرةٍ نقيَّةٍ."
وليكن ذكره مؤبَّدًا
مع محبَّتي وبَرَكَتي
غريغوريوس الثَّالث
بطريرك أنطاكية وسائر المشرق والإسكندريَّة وأورشليم
للرُّوم الملكيِّين الكاثوليك