الكتاب المقدَّس كلمة إلهية في كلمة بشرية
من خلال الروح القدس
الكتاب المقدَّس هو كلمة إلهية ومبادرة إلهية، الكلمة الإلهية كلمة شفهية متناقلة بشكلٍ بسيط وبدقَّة بأساليب سهلة حتى أنَّ الأطفال كان باستطاعتهم فهمها. وكان يقصد بالكلمة الإلهية في بادئ الأمر الأسفار الخمسة التشريعية، فالله أعطى الشرائع والقوانين كما أعطى الخلاص من مصر إلى كنعان، (التوراة وهي عبارة عن الشريعة أو التعليم، وقد كانت التوراة أهم أجزاء الكتاب المقدَّس في العهد القديم أما في العهد الجديد فحلَّ مكانها الإنجيل المقدَّس).
من الصعب تحديد فترة كتابة الكتاب المقدَّس المكتوب، ولكن نستطيع القول بأنهم بدؤوا بجمع الوثائق المكتوبة بين بداية المملكة وزمن الجلاء، أي بين فترة ١٠٠٠-٦٠٠ ق.م . كما أنَّ هناك عوامل كثيرة ساعدت على تدوين الكتاب المقدَّس:
١- عمل الأنبياء بقيادة الروح الإلهية:
عندنا تقريبًا ٢١٤-٢٤٢ مرَّة يتكرَّر فيها تعبير كلمة الله أو كلمة الرب، أي أنَّ الله هو الذي يبادر. ولقد كان الأنبياء الأشخاص الملهمين والمختارين للكتابة ولهم عدَّة مواهب، والكتاب المقدَّس مليء بالأمثلة فموسى تكلَّم مع الرب (يشوع بن سيراخ٤٥/١-٣): "وأقام منه رجل رحمة قد نال حظوةً في عيني كلِّ بشر موسى الذي أحبَّه الله والناس وكان ذكره مباركًا. فآتاه مجدًا كمجد القديسين وجعله عظيمًا يرهبه الأعداء. بكلامه أوقف الآيات ومجَّده أمام الملوك. أعطاه وصايا من أجل شعبه وأراه شيئًا من مجده". في هذه الآيات نلاحظ أنَّ موسى هو أول شخص ألهمه الله للكتابة، أما ما سبقه من الأنبياء فقد ألهمهم كلمته. (عد١٢/٦-٨): "فقال: اسمعا كلامي إن يكن فيكم نبيٌّ فبالرؤيا أتعرَّف إليه، أنا الرب وفي حلمٍ أخاطبه. وأما عبدي موسى فليس هكذا بل هو على كلِّ بيتي مؤتمن، فمًا إلى فمٍ أخاطبه وعيانًا لا بألغاز وصورة الربِّ يعاين فلماذا لم تهابا أن تتكلَّما مع عبدي موسى؟". يتكلَّم هذا النص عن الأبرار الذين يلهمهم الله للكتابة، أي أنَّ هناك دعوة من الله للكتابة (الإلهام) وكلُّ الأشخاص الملهمين يجب أن يكونوا مختارين ومدعوِّين من الله، ومهمتهم نشر كلمة الله، وكلمتهم مسموعة من الشعب، لأنها كلمة الله. (أش٦/٦-٧): "فطار إليَّ أحد السرفين، وبيده جمرةٌ أخذها بملقطٍ من المذبح ومسَّ بها فمي وقال: ها إنَّ هذه قد مسَّت شفتيك، فأزيل إثمك وكفِّرت خطيئتك. وسمعت صوت السيِّد قائلًا: من أرسل؟ ومن ينطلق؟ فقلت: هاءنذا فأرسلني". (إر١/١٩): "فيحاربونك ولا يقوون عليك لأنِّي معك، يقول الرب لأنقذك". (حز٢/٨): "وأنت يا ابن الإنسان، فاسمع ما أكلِّمك به، لا تكن متمرِّدًا كبيت التمرُّد. إفتح فمك وكل ما أناولك". (حز٣/٣): "وقال لي: يا ابن الإنسان، أطعم جوفك واملأ أحشاءك من هذا السِّفر الذي أنا مناولك. فأكلته فصار في فمي كالعسل حلاوة".
في نشر كلمة الله يجب التعبير والقول بأنَّ القوة التي تدفعهم لهذا التعبير هي قوة إلهية وليست قوة بشرية (في العهد الجديد القوة هي الروح القدس)، ولهذه الكلمة سلطان علوي، كما أنَّ روح الربِّ هو الذي يقود الأنبياء (تك١/٢): "وكانت الأرض خاوية خالية، وعلى وجه الغمر ظلام، وروح الله يرفُّ على وجه المياه". (تك٢/٧): "وجبل الربُّ الإله الإنسان ترابًا من الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة، فصار الإنسان نفسًا حيَّة". داوود النبي يقول في (٢صمو٢٣/٢): "روح الربِّ تكلَّم بي وكلمته على لساني"، (وبهذا يكون قد جمع بين الله والإنسان والروح القدس). هوشع يصف نفسه برجل الروح (هو٩/٧): "قد أتت أيام العقاب أتت أيام الثواب، ليعلم إسرائيل أنَّ النبيَّ غبيٌّ ورجل الروح مجنون بحسب جسامة ذنبك تشتدُّ العداوة". (حز٢/٢): "فأتمَّ الرب كلامه الذي تكلَّم به علينا وعلى قضاتنا الذين حكموا إسرائيل، وعلى ملوكنا ورؤسائنا وعلى بني إسرائيل ويهوذا. ولم يحدث تحت السَّماء بأسرها مثل ما أحدثه في أورشليم، على حسب ما كتب في شريعة موسى". (حز٣/١٢،١٤): "لقد تركت ينبوع الحكمة، تعلَّم أين الفطنة وأين القوة وأين الذكاء لكي تعلم أيضًا أين طول الأيام والحياة وأين نور العيون والسَّلام". كما أنَّهم يخبرونا عن الأبرار والمختارين من الله، ويدعوهم الله خدَّام الكلمة (سيراخ٣٩/٦): "فإن شاء الربُّ العظيم يمتلئ من روح الفهم فيمطر هو بأقوال حكمته وفي الصلاة يحمد الرَّب". (سيراخ٣٩/١-٢،٥،٧-٨). الله يتكلَّم ويتحدَّث بشكل واضح بيسوع المسيح الكلمة، لذلك فكلمة الله المتجسِّد (يسوع المسيح) هو أعظم نبي، النبي هو خادم كلمة الله وخادم شعب الله كما أنَّه المتشفِّع لدى الله بالنسبة لشعب الله، والموصل كلمته لشعبه. (في العماد نحن نأخذ الصفات التالية التي كانت ليسوع: الملوكية، النبوية، الكهنوتية، يسوع الذي هو صورة الله يوصل ذاته بذاته وليس من خلال الأنبياء والكهنة). النبي يعني الرائي في العهد القديم كما قلنا سابقًا، إنَّه الذي رأى الله وعبَّر عنه، كما أنَّ هنالك عدَّة أوجهٍ أو عدَّة فئاتٍ للأنبياء مثلًا: أنبياء البلاط الملكي (ناتان). وتصبح كلمة الله (يسوع) نبي بحدِّ ذاتها، فيسوع هو كمال النبوءة. وكلمة الله تصبح إنسانًا، فبدلًا من أن يرسل الله أنبياءً أرسل كلمته المحيية والتي تجسَّدت وأخذت طبيعتنا.
٢- صون ونقل كلمة الله:
كان هناك أشخاص مؤتمنين على المحافظة على كلمة الله ونقلها، فكلمة الله لم تكن تقبل بشكل عشوائي، ولكنَّ الأجيال المؤمنة هي التي تناقلتها بشكل منظَّم، وكان هناك أشخاص مسؤولين عن نقلها وأهمهم: الشيوخ، الكهنة اللاويين، المغنِّيين، الحكماء، الكتبة المذكِّرين بالوصايا الإلهية.
الشيوخ: بمعنى القضاة (القضاء في الشعب، حكماء الشعب)، كانت كلمة حكماء تطلق على المغنِّيين والكتبة لأنَّهم كانوا جميعًا يوصلون كلمة الله، وكانت مهمتهم القضاء في الشعب وتطبيق الشرائع والفرائض الإلهية، ويعتبرون مشاركين مع موسى بروح الرب (خر١٨/١٩-٢٦)، (عد١١/١٦-١٧): "فقال الرب لموسى: اجمع لي سبعين رجلًا من شيوخ إسرائيل الذين تعلم أنَّهم شيوخُ الشعب وكتبتهم، وخذهم إلى خيمة الموعد فيقفوا هناك معك. فأنزل أنا وأتكلَّم معك هناك وآخذ من الروح الذي عليك وأحلُّه عليهم، فيحملون معك عبء الشعب ولا تحمله أنت وحدك".
الكهنة اللاويين: مهمتهم تعليم الشريعة والقيام بالوظائف الطقسيَّة، كانوا يعتبرون موهوبين من الله لتمثيله، بالإضافة إلى كونهم مختارين منه تعالى من أجل التكرُّس له (عد٣/١١-١٣): "وكلَّم الرب موسى قائلًا: إنِّي قد أخذت اللاويين من بني إسرائيل بدل كلِّ بكرٍ فاتح رحمٍ من بني إسرائيل، فيكون اللاويون لي . لأنَّ كلَّ بكرٍ هو لي، لأنَّه يوم ضربت كلَّ بكرٍ في أرض مصر، قدَّست لي كلَّ بكرٍ في إسرائيل من البشر والبهائم، إنَّهم لي: أنا الرب". (عد٣/٤١): "وخذ اللاويين لي -أنا الرب- بدل كلِّ بكرٍ من بني إسرائيل، وبهائم اللاويين بدل كلِّ بكرٍ من بهائم بني إسرائيل". (عد٨/١٦): "لأنَّهم موهوبين لي، موهوبون من بين بني إسرائيل، فقد أخذتهم لي بدل كلِّ فاتح رحم، كلِّ بكرٍ من بني إسرائيل".
الكتبة (الرابي أو المعلِّم): (سيراخ١٤/٢٠-٢٧) ؛ (سيراخ١٥/١-٦) ؛ كانوا معلِّمين للشريعة، ويعتبرون منقادين من الروح الإلهية.
المغنِّين: هم مؤلِّفوا المزامير، مهمتهم تأليف المزامير وترميمها بإلهام من الله، وكانوا يدعون أيضًا بأنبياء وحكماء، إلاَّ أنَّهم ليسوا أنبياء عبادة فكلمة الله كانت تصل مرتَّلة. لذلك فالترتيل هو علاقة الشعب مع الله بشكلٍ مرنَّم، "فالذي يرتِّل يصلِّي مرَّتين" (أوغسطينس)، لأنَّه من خلال الكلمة المرتلة يآخذ المصلِّي الوقت الأكثر في اللقاء مع الله.
٣- الأشخاص المذكِّرين بالوصايا الإلهية:
كل الأشخاص المختارين من الله، هم ليذكِّروا بأحكامه وليحافظوا على كلمته. ويتناقلونها ويضعونها في إطار ملائم حتى يستطيعوا تعليمها بإطارٍ قصصي، روائي، تعليمي، شعري، أناشيد، مزامير، ويشرحونها ويضعونها في تصميم محدَّد (يشوع٢٤)، (عدد٢٧/١٥-٢٣)، (سيراخ٤٦/١…).
٤- المبادرة الإلهية:
إنَّ الكتاب المقدَّس منذ بدايته كان يشكِّل إرشادات تحتوي على كلمة الله المرتبطة بحدثٍ معيَّن، وشعبٍ معيَّن، ومكانٍ معيَّن، وزمانٍ معيَّن. ولأجل ذلك نرى بعض الإختلافات في طريقة التعليم البشري، ولكن كلمة الله هي واحدة، وقد كان من واجب النبي أو المرسل أن يوصل هذه الكلمة ويفسِّرها بإلهامٍ من الله.
والكتاب المقدَّس يذكِّرنا ببعض الأساليب التي كانت تتثبت فيها كلمة الله، فالله بشكلٍ واضح يأمر النبي أن يكتب. (خر١٧/١٤): "فقال الرب لموسى: أكتب هذا ذكرًا في كتاب وضع في أذني يشوع، أني سأمحو ذكر عماليق محوًا من تحت السَّماء". (خر٣٤/٢٧-٢٨): "وقال الرب لموسى: أكتب لك هذا الكلام، لأني بحسبه قطعت عهدًا معك ومع إسرائيل…، فكتب على اللوحين كلام العهد، الكلمات العشر". (تث١٧/١٨): "ومتى جلس على عرش ملكه فلينسخ له نسخةً من هذه الشريعة في سفرٍ من عند الكهنة اللاويين". (إرميا٣٦/١-٢): "كان هذا الكلام من إرميا من لدن الرب قائلًا: خذ لك سفرًا واكتب فيه الكلام الذي كلَّمتك به على إسرائيل وعلى يهوذا وعلى جميع الأمم من يوم كلَّمتك من أيام يوشيا إلى هذا اليوم". (أشعيا٣٠/٨): "فهلمَّ الآن واكتب ذلك على لوحٍ أمامهم، وارسمه في سفرٍ ليكون لليوم الأخير دائمًا وللأبد".
والكتاب المقدَّس يقول لنا أنَّه لا توجد صيغ كثيرة للتعبير عن الكتابة، عندما يتكلَّم الرب "يقول الرب"، "كلمة الرب". وقد كان سفر الشريعة يقرأ أمام الشعب، بجوٍّ من الوقار والرهبة وبصوتٍ عالٍ ومعلنٍ في الساحات، وبالإحتفالات الليتورجية والدينية (خر٣٤)، (تث٧)، (نحميا٨).
كما أنَّ الكتاب المقدَّس كان السلطة العليا المطلقة، وأصبح له تقريبًا هيكلية منظَّمة في القرن الأول قبل المسيح، حيث تحدَّدت الأسفار التي يؤمن بها الشعب اليهودي: (الأسفار التشريعية…الخلق… الدخول إلى أرض كنعان…التعليم النبوي…المزامير…الكتاب).