مفهوم اللاهوت الروحي
اللاهوت الرّوحي هوَ عرضٌ لبَعض مُقَوِّمات الحياة الرُّوحيّة، فكُلّ إنسان يَتُوق ويَطمَح لعلاقةٍ مع مُطلَق، أيّ مع شيء يتخطّى قُدُراته الأرضيَّة، وهذا ما يُسَمّى "بالنَزعَة الرُّوحيَّة" Dimention Spirituel.
إنَّ ما هوَ أساسيّ في هذا الموضوع، هوَ الإنسان.
العوامل التي تُساعد الإنسان في حياته الرُّوحيَّة
الحياة الرّوحيَّة هي قُدرة انتباه الشّخص على ذاته، على كلامه وتصرُّفاته... إلخ، فَلَيسَت كميَّة الخطايا أو الفضائل هيَ التي تُحَدِّد الحياة الرّوحيّة، إنَّما القُدرة على رؤية ذاته ومعرفة ذاته؛ وعندما يتقدَّم الإنسان روحيًّا، يُصبح قادرًا على الانتباه للأخطاء في حياته.
عندما يتعمَّق الإنسان بحياته الرّوحيَّة، يُصبح قادرًا على السّيطرة على ذاته وعلى محاسَبَة ذاته. الخير الذي أستطيع أن أفعله، إن لم أفعله فذلكَ خطيئة.
المقياس في الحياة الرّوحيّة، هوَ الإنسان وليسَ الله، فالله هو الذي يُعطي، لكنَّ الإنسان هو الذي يجب أن يتجاوب مع الله، لذلكَ، فالإنسان هوَ المقياس.
الأساس عند الإنسان هو قلبه؛ فالقلب، هو مصدر كل ما يخرج من الإنسان، وبقَدرِ ما ينتبه الإنسان لمُيُولِ قلبه، بقَدرِ ما يكون روحانيًّا بامتياز.
النِّعمة ليسَت مُزادَة على الإنسان، لكنَّها موجودة بقَدرِ ما يكتشفها ويُفَعِّلها الإنسان في ذاته. إذًا النعمة الأساسيّة الأولى، هي أن تكون على صورة الله ومثاله. (بالنسبة للغرب: النعمة هيExtra – Ordinaire؛ بالنسبة للشرق: النعمة هي Ordinaire ).
الحياة الرّوحيّة: تستند أساسًا على الحياة الإنسانيَّة، فهيَ لا ترتبط بما هو فائق الطَّبيعة، إنّما على العكس فهيَ أكثر واقعيّة في الواقع. (التفتيش عن الحياة الروحية، هو ما يحدث معي باستمرار، وما هو ثابتٌ في الحياة)، فالحياة الواقعيّة هي مغامرة بِحَدِّ ذاتها، بمعنى أنَّ الإنسان يُحبُّ الحياة بالرّغم من الآلام والمشاكل والمصاعب والفشل والحزن، نراه يرفض الموت أبدًا تَعَلُّقًا بالحياة، ولكي تُصبح هذه المغامرة مصدر حياة مُتَّزنَة، لا بُدّ ممّا يُشَجِّع على الاستمرار فيها؛ فالعُنصُر الأكثر تشجيعًا لحبّ الحياة، هو الحياة الرّوحيّة؛ لذلك تُعتَبَر بمثابة "فَنّ الحياة"، أيّ معرفة عيش الحياة بطريقة أكثر واقعيّة أو أكثر حياتيَّة.
يستطيع الإنسان أن يعيش من دون حياة روحيّة، لكنَّ حياته تبقى وفقًا لما يتعرَّض له من أحداثٍ ومصاعب وأفراح...إلخ، أمَّا من يمتلك "فَنّ الحياة"، أيّ عامل الحياة الروحيّة، يستطيع أن يُتابع حياته بواقعيّة أكثر وباستمرارية أقوى.
بكلمة واحدة، وَحدَهُ الله يستطيع أن يُشبع رغبة الإنسان في الحياة، لكنّ الله هذا، هو موجودٌ أكثر عند الشعور بغيابه، والعكسُ صحيح، فهوَ يغيبُ أكثر عند التأكُّد من حُضُوره، (الخطر في الحياة الروحيّة هو أن تجعل الله في مُتناوَل يدكَ).
يُمكننا القَول بأنّ اللاهوت الروحي يستند أساسًا على الاختبار الشّخصيّ في الحياة الروحيّة؛ هذا الاختبار يدفع الإنسان للاهتمام بمجريات حياته دون التركيز على ما هو جانبيّ أو يتعلّق مباشرةً بالآخرين؛ هذا الاختبار مع الله هو أساسًا من تكوين كلّ إنسان بشريّ.
من الناحية المسيحيّة، الاختبار يقوم أساسًا على العلاقة الشخصيّة مع الله، أي اكتشاف إرادة الله، أو دور الله في حياتنا؛ من لا يُفَتِّش عن إرادة الله، هو من يرفض تفعيل علاقته بالله؛ إذا كان الله قد أخذ المبادرة لإقامة علاقة مع كلّ إنسان، فَقِلَّةٌ هُمّ من يتجاوبون مع هذه المبادرة المجّانيّة. هنا يَكمُن الاختلاف في الاختبارات.
في التأمل إذًا، أن تبقى أمام سرّ دون جواب سريع، فهذا يعني أنَّك في حياةٍ روحيّةٍ ممتازة، وإن وجدت جوابًا سريعًا، فأنت في خطر.
إذًا يهتمّ اللاهوت بالحياة الرّوحيّة اهتمامًا بالغًا، على أنّها تطبيقٌ مباشر للمسائل اللاّهوتيّة، أو الأفكار التي تنبع مباشرةً من الكتاب المقدَّس؛ من هنا يُمكننا القول بأنَّ اللاهوت الرّوحي يرتبط مباشرةً بمبدأ العيش المسيحي، أو خبرة الحياة اليوميّة. يستند اللاهوت الرّوحي على الكتاب المقدَّس أساسًا؛ من جهة يتمحور حول الله، وحول مخطَّطه الخلاصيّ (وهذا ما يُسَمّى الفكر العقائدي)، ويستند من جهةٍ أخرى على نمطِ الحياة (وهذا ما يُسَمّى الحياة العمليّة)، لذلك، يُمكننا القول بأنّ اللاهوت الرّوحي يرتكز على الله والإنسان، والمقياس الوحيد بينهما، هو الكتاب المقدَّس؛ ولجعلِ العلاقة ثابتة ومستمرّة، يحتاج الإنسان إلى أمرين:
1- إيمان ومحبّة.
2- تركيز على شخصه، دون الالتفات إلى الآخرين.
إنَّ الإنسانَ الرّوحيّ، يعيشُ بعلاقةٍ شخصيّةٍ مع الله.
في اللاهوت الشّرقيّ، يهتمّ اللاهوت الروحي بمسألة التأمُّل حولَ حقيقة الله وحقيقة الذّات في آنٍ معًا، بمعنى أنّ التّفكير في الله لا ينفصل بتاتًا عمّا هو الإنسان في ذاته؛ يُمكننا القول، بأنّ الله لا ينفصل عن الإنسان، فالله لا يحتاج إلى الإنسان إلاّ لأنّ الإنسان يستطيع أن يكتشفه؛ في هذا الإطار، لا بُدّ من الكلام حول التَدَرُّج أو النُمُوّ، من ناحيةِ الإنسان أن ينمو، أو يُرَكّز حياته "استنادًا للكتاب المقدّس" في الاستمرار في التفتيش عن الله، دون التوقُّف على سلبيّات أو إيجابيّات الحياة؛ من هنا، يستقلّ الإنسان في مواجهة الذّات للوصول إلى الله.
كلّ هذا يُشَكّلُ إطارًا "باطنيًا"، يستند على الضّمير الشّخصيّ وعلى فرادَة الإنسان بالنسبة إلى الله، لذلك، يُمكننا القول بأنّ كلّ إنسان يُمكنه أن يُصبح روحانيًّا.
إنَّ اللاهوت الرّوحي وإن استَنَدَ على عقائد إيمانيّة، يُمكنه أن يُساعد الإنسان على توسيع أو تعميق مفاهيمه، فينطلق الإنسان إلى الغوص في المعطيات الإلهيّة ليُتَرجمها في حياته العمليّة؛ كلّ هذا، لا ينفي التأثُّر بالمعطيات الإنسانيّة العامّة، وخاصّةً تأثير العلوم الإنسانيّة (علم النفس مثلًا) على عمليّة النُمُوّ الرّوحي؛ بعد ذلك يستطيع الإنسان أن يُصَوِّب مساره انطلاقا من تفاصيل الحياة اليوميّة، وُصُولًا إلى حالةٍ داخليّة تَفُوقُ الطبيعة العاديّة؛ إذا كان اللاهوت يستند عامّةً على التّفكير في حقيقة الله، فالناحية الروحيّة فيه تقوم على تنظيم الواقع العملي، أيّ جَعلْ الله حقيقة لاهوتيّة بذاته، لا تقوم فقط على المعرفة، إنّما على العيش أيضًا؛ فالمطلوبُ هو واحد:
خَلقْ الاتِّزان الشّخصيّ، بينَ ما هو الله وما هو الإنسان؛ تختلف هذه المعطيات بين إنسانٍ وآخر، لكنّها تفترض رغم تعدُّد الاختبارات، عَيش خبرة الإيمان:
وَحدَهُ قادرٌ أن يتحدّث عن حُبّ الله، مَن يُحبّ الله فعلًا؛ لكنّنا نُشيرُ سريعًا بأنّ الكلام عن الله هو أمرٌ مستحيل، لأنّ الله لا يمكنه أن يُصبحَ مادّةً في متناول الإنسان؛ قد ينتهي الإنسان الروحاني إلى حياة الصّمت عن الله، كي يبقى كنزًا دفينًا يُغَذّي خبرته الرّوحيّة في مسيرته الشّخصيّة؛
من جهةٍ أخرى، نستطيع أن نقول بأنّ العلاقة مع الله تتأثّر بالمعطيات الشخصيّة عند الإنسان، لكنّها يجب أن لا تَحُدَّ من عيش هذه العلاقة؛ إنَّ الحياة الرّوحيّة كتعبيرٍ عن اللاهوت الرّوحي، تتأثّر بنُضج الإنسان دون إهمال أهميّة المكان والزمان والأشخاص والأحداث.
علاقة اللاّهوت الرّوحي بالكتاب المقدَّس
إنَّ كلمة الله المكتوبة، يُمكنها أن تُروي عطش الإنسان نحو الله؛ فالشّوق إلى الله لا ينفصل عن التّفتيش عنه من خلال الكتاب المقدَّس؛ في هذا المجال، يحتلّ الكتاب المقدَّس مركزًا هامًا، استنادًا إلى أمرين:
- إلهيَّة الكتاب أو كتابٌ إلهيّ: أيّ، يكشف عن حقيقة الله بذاته.
- لأنّه كتابٌ كَنَسيّ، تَبَنَّتهُ الكنيسة كتعبيرٍ أكيدٍ عن حقيقة الله.
انطلاقًا من هذين الأمرين، يُمكننا اعتبار الحياة الرّوحيّة مجالًا لعيش حقيقة الله من خلال الكنيسة أو الجماعة المسيحيّة؛ فلا روحانيّة تُناقض تعليم الكنيسة أو حتّى تنتقدها، لأنّ الكتاب المقدّس كما تشرحه الكنيسة، هو ضمانة لعيش أصالة الإيمان؛ ولعلَّ الأهم في هذا المجال، هو أن تجعل من كلام الله سَبَبًا للصّلوات أو الابتهالات تجاهه، بمعنى أنَّ الكتاب المقدّس يجب أن يُحَرِّك في الإنسان إقامة علاقة مباشرة مع الله (دون إهمال الأُسُس الجماعيّة)؛
إنَّ الكتاب المقدَّس، هو شهادة عن الإيمان في الله، وأساس اختبار هذا الإيمان، انطلاقًا من نَصّ الكتاب وليس من اختبار الإنسان؛ فكلّ شرحٍ أو تفسيرٍ، يجب وإن تعدَّد أن يكشف عن حقيقة الله الواحدة؛ فالنَّقد أو التّحليل أو الحياة الشّخصيّة، لا يُمكنهم أن يحدّوا من حقيقة الله المتجسِّدة في الكتاب المقدّس؛ فالخَطَر الأكيد في هذا المجال، هو أن يقرأ الإنسان الكتاب المقدّس، ويسمع ذاته بدلًا من الله.