لاهوت القدّيس بولس
الأب جورج خوام البولسي
لا غنى لنا عن البدء بإلقاء نظرة على عقيدة القدّيس بولس، حينما كان بعدُ فريسيًّا، لو أردنا أن نتعلّم لنا بعضًا من نظامه اللاهوتيّ. من المؤكّد أنّ فحوى العقيدة بكامله، وبدقائق تفاصيلها، لا يمكن البتّ فيه هنا، ذلك بأنّ حركة الفريسيّين الدينيّة قائمة في معظمها على جانب فقهيّ، يتعلّق بممارسة الشريعة، أكثر منها على نظام عقيديّ بحت. ولكن، فيما كان ثمّة شبه اتّفاق على المبادئ العامّة، نرى أنّ لدى بولس جوانب يمكن الإطلالة منها على الفريق الذي انتمى إليه.
١- الفريسيّ شاول
يبرز إيمان بولس اليهوديّ من خلال إعلائه وحدانيّة الله، خالق السماوات والأرض وسائر المبروءات، وصانع التاريخ على وفق تدبير خاصّ به. وتتوسّط هذا الإيمان شريعة ألقى بها الله نفسه على الشعب اليهوديّ، فرسم له بها طريقًا آمنة إلى نيل إحسانه وإنعامه، في وسط شعوب متجبّرة تتهدّد بسطوتها وجوده. لقد عُدّت الشريعة مقدّسة (رو ١٢:٧)، حتى إنّ اعتقاد كثيرين من المذهب الفريسيّ أخذ بجدارتها في تحقيق البرّ أمام الله. أمّا الأمم، التي ليس عندها شريعة، فستلقى مصيرًا محتومًا، لانصرافها إلى النجاسة، وسائر الأفعال التي تضادّ الله. هذا المصير المحتوم هو الهلاك، فيما يرجو أبناء الشعب أن ينالوا الخلاص، الذي سوف يتحقّق على يد المسيح. إنّ الإيمان بقدوم مخلّص يعيد إلى شعب الله اعتباره كشعبٍ مقدّس، يغذوه إيمان بآخرة آتية، لا محالة، بعد انقضاء الزمان، فيها يجري القضاء على وفق أعمال كلّ إنسان. ويفصل الله وملائكته ثمّة الأشرار والأخيار، مدخلاً الأوّلين إلى جهنّم، والآخرين إلى معاينة وجهه تعالى.
٢- شاول والخطيئة
يخترق مفهوم الخطيئة فكر بولس اللاهوتيّ، ويصحبه مفهوم التكفير عن الذنوب، بطريقة ملازمة. في الرسالة إلى الرومانيّين، خاصة، يبسط بولس نظرته اللاهوتيّة إلى مفهوم الخطيئة؛ فيما تتناول الرسالة إلى العبرانيّين الموضوع الثاني، موضوع التكفير عن الخطايا. بؤرة الخطيئة، عند شاول، تقبع رابضة في الجسد، لا من حيث إنّه مادّة تخالف النفس، وإنّما من حيث إنّه شهوة لا تكفّ عن الطلب في إشباعها، وتخالف الروح. لقد ساد اعتقاد، عند بعض الفرّيسيّين المتزمّتين، يغلب عليه طابع الزهد بدل هوس الشريعة، بأنّ الذبائح وسائر التقادم لا يمكنها أن تمحو الخطايا. ونشأ تيّار دينيّ أقرب إلى التصوّف في رؤيته إلى العلاقة مع الله، راح يولي العبادة "الروحيّة" أهميّة تفوق العبادة "الطقسيّة"، وينادي بأهميّة "الرحمة" مقابل عجز "الذبيحة" (راجع متى ١٣:٩: "أريد رحمة لا ذبيحة"). لقد انتمى شاول إلى هذه الزمرة من الفريسيّين؛ وانهمك ـ لتزمّته ـ بقضيّة تبريره أمام الله؛ وعانى من عجز الشريعة عن توفير هذا التبرير للآخذين بها، الساعين وراءها سعي الظامئ إلى عين. آمن برحمة الله كسائر اليهود، وبضرورة الذبائح تقرّبًا إلى الله، واستغفارًا، كالفرّيسيّين، إلاّ أنّه تفرّد عنهم جميعًا بإدراكه "السرّ" الإلهيّ، ألا وهو أنّ مصالحة الإنسان مع الله لا تتمّ وتكتمل إن جُعِلت مبادرة إنسانيّة محضة. فالخطيئة، بالنسبة إلى بولس، متجذّرة في الكائن البشريّ، ومغروسة في كيانه بعد سقطة الجدّين الأوّلين، ومنيعة على أن تقتلعها ذبيحة "عابرة". أمّا حال البشريّة هذه فتفضي بها، بلا محالة، إلى هلاك، وهذا غير ممكن حسب معتقده، إذ الله "رحوم"، بل "أبو المراحم"، و"أمين" لعهوده. من أجل ذلك، يرى بولس أنّ قوّة الخطيئة مدعاة إلى قوّة "النعمة"، أي إلى مبادرة إلهيّة تمحو الخطيئة، وتجتثّها من جذورها. وهل أصلب من "محبّة" الله حتى تقتلع الشرور من وسط العالم؟!
٣- من شاول إلى بولس
ثمّة في لاهوت بولس حلقة، تصل إيمانه وهو فريسيّ بإيمانه وقد اهتدى إلى المسيح. فمن جهة الفريسيّ، شاول مؤمن بمسيح يأتي، وبدور الشريعة في تشييد الإيمان، وبرحمة الله، وتدبير الخلاص، وفرادة الشعب اليهوديّ مقابل سائر الشعوب، في نيله حظوة عند الله، وثقل الخطيئة. إنّ هذه النقاط "العقائديّة" حافظ عليها بولس، ولم يتخلَّ عنها، عندما اهتدى إلى الإيمان بيسوع، وشخصه، وسرّه. بل نجدها تارة معلنة ينادي بها، بل يُبنى عليها تعليم عقائديّ، ثمّ طورًا محجّة في عبّ الجدال الذي ينشئه بولس مع اليهود، الذين لم يذعنوا لصحوة الإيمان الجديد. أمّا من جهة المسيحيّ، فإنّ بولس بات يؤمن، ولم يكن من قبلُ، بأنّ موت المسيح كان فداء (مر ٤٥:١٠؛ أف ٧:١). على أساس هذه الحلقة الضائعة، موت المسيح فداء عن البشريّة جمعاء، استطاع شاول أن يفهم أمورًا عديدة:
١. إيمان الفريق المسيحيّ الأوّل، المدعوّ عند يسوع أنّه من "الأخصّاء"، بهويّة يسوع؛
٢. لغز الموسويّة الدهريّ: شريعتها، ووحيها، ودورها التاريخيّ واللاهوتيّ؛
٣. مخطّط الله، المدعوّ عند بولس "سرًّا مكتومًا"، وأبعاده اللاهوتيّة الممتنعة على الاستقصاء؛
٤. تاريخ البشريّة العامّ. كذلك، تمكّن بولس من وضع حدّ لمعاناة إيمانيّة، تتأرجح بين برارة لا تستطيع الشريعة اليهوديّة بلوغها، ولا توفيرها، وحكم بالقضاء حتى على أشدّ الفرق اليهوديّة تزمّتًا، من جرى العجز عن تحقيقها البرّ المنشود. ومن ثمّ، فموت المسيح على الصليب إذ هو حقًّا فداء، يندرج ضمن مبادرة أحاديّة طرفها الله، والمفيد الوحيد منها الإنسان الذي يؤمن بها، ويفطن لمدلولها الخلاصيّ ـ فالله هو "المدبّر الأشياء كلّها بحكمته" (أف ١١:١)؛ وقد دبّر كذلك افتداء البشريّة، بأن أسلم يسوع إلى الموت (رو ٢٥:٣؛ ١٠:٥)، موت الصليب (في ٨:٢).
تعلّم بولس من كتب الشريعة أنه "ملعون كلّ من عُلِّق على خشبة" (غل ١٣:٣؛ تث ٢٣:٢١). لقد عُلِّق يسوع على خشبة الصليب، ومات عليه. فما ترى معنى هذا الفداء؟ كان على بولس لا أن يجد فقط الحلقة الضائعة في فهم إيمان الرسل والكنيسة، بل أن يتخطّى أيضًا معثرة يضعها أمامه إيمان أجداده. هذا ما نجده في كلّ حدث اهتداء: فمن جهة، فهم يبلغ بصاحبه إلى صلب الإيمان الجديد؛ ومن جهة مقابلة، استنارة جديدة، ومخاض جديد، وتجاوز يحتاج صاحبه إلى قدرة علويّة حتى يفلت من عِقال المعتقدات القديمة، التي طالما أخذ بها. لقد أدرك بولس، برؤيته المشبعة تأمّلاً في سرّ المسيح، أنّ فداءه البشريّة مائتًا على خشبة الصليب، لا يمكن قبوله، أو تصوّره، واستساغته، منفصلاً عن فكرة "بذل الذات" محبّة بالبشر. إنّ بذل الذات هذا عن محبّة ليس إلاّ، ظهر شيئًا فشيئًًا أمام باصرة بولس، الذي راح يفقه "بوحيٍ" سرَّ المسيح: تجسّده، وموته، وقيامته، وظهوراته. فكان سرّ المسيح، بالنسبة إليه، سرّ محبّة الله التي أحبّ بها بني البشر (رو ٨:٥)، وأطلّ من نافذة هذا الفهم على إيمانه الجديد.
٤- من بولس إلى رسول الأمم
أصبح شاولُ بولسَ عندما عرف، على طريق دمشق، خطأه، فانقلب عمّا تقلّب بين ظهرانيه سنوات طويلة. وقد لزم حالته الجديدة مدّة من الزمن، قلّما تتجاوز ثلاث سنوات (غل ١٨:١)، أمضاها في "بلاد العرب". ولما ذهب برنابا إليه في طرسوس، واستصحبه إلى أنطاكية، عرف بولس مرحلة جديدة من دعوته: الرسالة بين الأمم. وقد ترتّب على هذه الخطوة الجديدة إكمال بولس معرفته في علم اللاهوت، وانبلاج فجر جديد بالنسبة إلى الحركة الجديدة، التي نشأت خجولة في أرض فلسطين. عرف، من جهة، أنّ يسوع الذي يضطهده لم يكن داعية دينيّة، أو رابّيًا، أو أحد الوجوه البارزة في الأمّة وحسب، بل أنّه أيضًا "ربّ"، و"ابن" على نحو خاصّ، لا يضاهيه في مرتبته هذه كائن آخر، و"مخلّص" يحقّق نبوءات العهد، التي طالما ثبّتت الرجاء المسيحانيّ في أفئدة الناس المؤمنين، على مرّ الأحقاب. وعرف كذلك، أنّ الجماعة الداعية باسمه، والآخذة بتعاليمه بكلّ أمانة وجرأة، والمجتمعة على كلمته، والمبشّرة به قائمًا من بين الموتى، تحيا بفضل سهره عليها، ورعايته أربابها، وإحاطتهم بعناية فائقة، لئلا يزوغوا عن تعاليمه ووصاياه، من دون أن يكون لهم ذلك كلّه عبر حضوره بالجسد. فاكتشف وراء ذلك عمل روح يسوع فيهم، الروح المقدّس والهادي، والحافظ الخطى من عثار الخطيئة، والملهم العقول الفكر القويم والإيمان الراسخ. لم يكن بولس في عوز كبير لاستجلاء عمل الروح، أو إدراك وجوده عبر العالم؛ فقد برز في الكتابات اليهوديّة المتأخرة نموّ دينيّ في هذا المنحى، اعتاده بولس، بلا شكّ، وترعرع في وسطه. كان يعوزه فقط أن "يرى" بعقله، أي أن "يسبر غور أعماق" الفعل الإلهيّ، الذي انكشف في وسط وزمن لم يكن بولس قادرًا أن يتحمّل حقيقتهما، وأن يخلص من ثمّ إلى الإيمان الجديد.
لقد أذاع بولس على الملا، ما إن أدرك السرّ العجيب، الحقيقة الجديدة. وراح ينادي بالإيمان الذي انقلب في داخله "مجرى ماء حيّ" عند كلّ خليقة، لا يصدّه شيء عن غايته: "لا شدّة، ولا ضيق، ولا اضطهاد، ولا جوع، ولا عري، ولا خطر، ولا سيف" (رو ٣٥:٨). بل تحوّلت غيرته فيه إلى تفسير مضامين هذا الفهم الجديد الذي حصل عليه، والبرهان عليه من الكتاب والحكمة اليونانيّة، يؤازره عمل الروح القدس، وييسرّ له الولوج أبعد فأبعد إلى أعماق التدبير الإلهيّ.
٥- الخلاص والتبرير
تكاد لا تخلو رسالة من رسائل القدّيس بولس من هذين المفهومين، حتى إنّ المرء يتساءل حول موقع كلّ من هذين اللفظين في وسط السلسلة اللاهوتيّة، التي تؤلّف فكر بولس! إنّ معضلة الخلاص، أو المسألة الدينيّة التي تتعلّق بوجود الإنسان، في الآخرة، إلى جانب الله، تمدّ جذورها تاريخيًا في تربة الاختيار الخاصّ، الذي عَدَّ شعبُ إسرائيل نفسه محظيًّا به، في وسط حضارات عريقة، وأديان تتقدّم عليه، من حيث شيوعها وممارستها. لم يكن من الممكن الفوز بكيان وتاريخ وأرض ومملكة، في عمق الضمير الدينيّ، لدى أرباب الأمّة الموسويّة، لولا أنّه يهوه اختار شعبه إسرائيل، وأخرجه قويًّا، وأقامه في وسط ممالك أشدّ بأسًا وبطشًا. فالخلاص، إذًا، كمفهوم دينيّ، مرتبط بإيمان دهريّ بالنسبة إلى اليهوديّ، قوامه تاريخ الشعب، وحال قبائله عبر الأحقاب، ماضيًا وحاضراً ومستقبلاً. وقد علق هذا المفهوم الدينيّ-التاريخيّ بذهن بولس، وبات محورًا فكريًّا عنده كمؤمن ملتزم؛ بل رسخ في عبّ تأمّلاته وفقهه، وهو بعد على ديانة آبائه.
ومن الجدير التنويه به الأثر "الروحيّ"، الذي أغدقه تباعًا المذهب الفريسيّ على بُعدَي هذا المفهوم، مفهوم الخلاص. فقد بات هذا الأخير يدلّ لا على مصير الشعب وحسب، ويعني لا اختياره المفضّل وإيثاره على سائر الشعوب، كما في الماضي، بل أمسى الخلاص إيمانًا، حسب المفهوم الفريسيّ، بمجيء "مسيح" ملك، "ومخلّص"، يقيم العدل والإحسان، ويرشد إلى العبادة الحقّة، ويسلك في طريق الصلاح، ويعلّم الجماعة مرضاة الله. هذا المفهوم الروحيّ الحديث نسبيًّا، والسائد في مجتمع شاول بولس، هو ما كان يعتمل في نفس الأخير، ويحفزه ككثيرين من أقرانه إلى "التزمّت" الدينيّ، والطقسيّ. ولكنّ هذا المفهوم ألقى، في الوقت نفسه، بثقله على ضمير المتديّن بولس، لإيقانه بأنّ الجماعة اليهوديّة لا تني لا تستأهل أن تلاقي "مسيحًا" هذه صفاته، "مخلّصًا" يقودها على درب "الخلاص"؛ فقد عثر بولس، كغيره من بني جنسه، حيث كان ينبغي أن ينهض إلى انطلاقة صادقة!
أمّا "التبرير" فهو الجواب الذي رفع بولس من كبوته الدينيّة؛ إنّه الحلّ الذي أخرجه من معضلة شائكة، كان يتخبّط فيها وسائر أبناء اليهود، والمخرج الذي وجد فيه بولس "اختيارًا" إلهيًاً، محضه الله كلّ مؤمن، وكلّ إنسان، لينال "الخلاص". إنّه "قبول" لا مشروط، وهديّة لا انتفاع منها، وعفو مقتدر لا قياس له، جاء به الله الشعب عامةً، بواسطة شخص يدعى يسوع المسيح. وهو رفعة من مذلّة، وافتداء من نير عبوديّة، وإشراك في حياة خالدة، ورجاء لا تخاذل فيه، وإيمان قويّ بصدق الله القادر على كلّ شيء، حتى على ما لا يخطر ببال، وما لا يدور منطقيًا في فلك فكر بشريّ. إنّه "تدبير" إلهيّ اتّخذه الله نفسه، إذ أرسل إلى بني البشر ابنه يسوع المسيح، حتى يفتدي به البشر، ويوفّر لهم الخلاص الموعود، والخلاص الموحى به على مرّ الأزمان، والخلاص الذي يجد فيه كلّ كائن ملاذه الأخير، أمام أحابيل العالم ورئيسه وأعوانه.
٦- الكنيسة والأسرار
تمتاز رؤية بولس اللاهوتيّة، في ما يتعلّق بجماعة "المبرّرين" بالمسيح، بأنّها رؤية واقعيّة لم يكتمل تمامها بعد، أي أنّها رؤية لم تستوفِ كامل تحقيقها، وكلّ حقيقتها. وتستند في حجّتها إلى إيمان بولس الصلب بشخص المسيح، الذي مات وقام لكونه ابن الله، مخلّص العالم. إنّ جماعة المؤمنين بيسوع تكتسي، في نظر بولس، بواقع جديد، مظهره الخارجيّ "الحياة في الجسد"، وكنهه الدائم "الحياة حسب الروح". ولكنّ جماعة المؤمنين هذه، التي اكتسبت كيانًا جديدًا، يدعوه بولس "مسكناً أبديًّا" لا يفنى، بفضل تقدمة المسيح ذاته فداءً عنها، تعمل ـ بل عليها أن تعمل ـ بحسب بولس، كي تستبق وهي في الجسد إظهار كنوز الحياة خارج الجسد، عند ملاقاتها الربّ يسوع. وهذا الإيمان هو ما يدعوه أيضًا بولس "جدّة الحياة"؛ ولم يكن لديه وهو في اليهوديّة، لأنّ فحواه وحقيقته لم يكونا بعد قد انجليا للعيان كما في زمن يسوع، الذي أبان بموته وقيامته "عظمة هذا السرّ المكتوم منذ الدهور".
من ناحية أخرى، تكشف لنا رسائل بولس صورة الكنيسة العاملة، والجاهدة في مسعاها الإيمانيّ، على وفق الحقيقة المعتلنة بيسوع المسيح. ففي هذه الصورة مراتب وخدم متنوّعة، وفيها ترتيبات ورسوم أيضًا، بل شجون ودعوات متواترة إلى الإصلاح والتقويم. لكنّ هذا الإطار الوضعيّ ذو قيمة عابرة، في نظر بولس، إذا ما قيس بحقيقة الكنيسة الجوهريّة، يقول: "إنّنا ننظر الآن كما في مرآة..." (١كو ١٢:١٣). بل ما من قيمة تُعَلَّق به، إلاّ بالقدر الذي يسهر فيه على الإبقاء بحرص لا تواني فيه على جذوة الحقيقة الجديدة متّقدة، حتى تنكشف بنصاعتها أمام أعين الناس جميعًا. وبتعبير آخر، تتّخذ الكنيسة، في نظر بولس، اعتبارها على أساس ما يجب عليها أن تبديه في خدمة الإيمان، وأن تتفانى فيه مسلكًا وسعيًا وحضًّا وتعليمًا، أوّلاً، ثمّ تنال من ثمّ قدرها وتقديرها، كشاهدة حيّة على عظمة الوديعة التي اؤتمنت عليها. هذا ما يوضحه بولس، إذ يعمد إلى صورة الجسم، تارة، حيث الرأس هو المسيح، وباقي الأعضاء الكنيسة (أف ١٥:٤ب-١٦؛ ١كو ١٢:١٢-١٣)، أو إلى صورة البناء، تارة أخرى، حيث الأساس هو يسوع المسيح، وسائر البناء أعمال كلّ واحد من المؤمنين (١كو ١١:٣-١٥؛ أف ٢٠:٢-٢٢).
ليس بولس فقيهًا مثاليًّا، يبدع في القول، ويمسك بزمام الكلام، بعيدًا عن الواقع. إنّه يعلم حقّ العلم، بناء على اختبار شخصيّ، كم يتنازع المرء فصام يرمي التوق الحسن جانبًا، ويميل به إلى ارتكاب السوء (راجع رو ٢١:٧-٢٥). إنّه يدرك الزلات التي تتربّص بجماعة المؤمنين (غل ٧:١)؛ وهو على بيّنة تامّة من هفوات الإنسان الكثيرة (رو ٢:١٢)؛ ومطّلع خير اطّلاع على تقاعس الطبيعة البشريّة عن أداء واجب الاحترام تجاه الأقداس والمحرّمات (١كو ١:٥ي). ولكنّه، لا يتوانى عن استخراج الحلّ من بطون المعضلات؛ ولا يكلّ أمام المهمّات الجسام؛ وهل من مهمّة أعظم من التبشير بالكلمة عند بولس (١كو ١٦:٩)؟! ومن ثمّ، فإنّ لاهوت بولس وعلمه يمحّصان سرّ تدبير الله في شخص المسيح يسوع، بحثًا عن موئل، يستكينان إليه وهما يفتّشان عن صون الجماعة من معاثر العيش في جسد. فيجدان، ذاك اللاهوت وذلك العلم، ضالّتهما في الأسرار، أي في ممارسات تكسب المؤمن عونًا على الصعاب المحيقة به، في وسط عالم مليء بالمتناقضات.
إنّ الأسرار، عند بولس، علامة على حياة الجماعة المؤمنة بهويّتها: فمن جهة، هي دليل ساطع على سيرها سيرًا آمنًا وأمينًا نحو مقتضيات إيمانها؛ ومن جهة مقابلة، هي غذاء ومؤونة روحيّة وعضد علويّ، كيلا تزلّ خطاها. أما هويّة الجماعة الكنسيّة فهي حقًّا شركة في حياة إلهيّة، مهّد إليها الربّ يسوع المسيح.