مراحل تكوين الفرض الكنسي
أولًا- المرحلة الأولى (من القرن الرابع حتّى القرن الثامن)
القدّيس باسيليوس الكبير والرهبان الكباذوكيون
لا نجد في الأورولوجيون اسم القدّيس باسيليوس في الصلوات المنسوبة إليه فحسب، وهي عديدة، بل أيضًا في الساعات، خصوصًا النهاريّة منها، التي تتناسب في الكثير من التفاصيل مع الوصف الذي نجده في القانون السابع والثلاثين من قوانينه الرهبانية الكبرى. تكرِّس صلاة الصباح لله حركات النفس والعقل الأولى. إنّه قبل الانشغال بأيّ عمل ينبغي أن نفرح بالربِّ حسب قول الكتاب المقدّس: "تذكّرت الربّ ففرحت" (مزمور٧٦،١)، ولا ينبغي أن نُشغل جسدنا بأيّ عملٍ قبل أن نُتمَّ قول صاحب المزامير: "يا ربّ بالغداة تسمع صوتي، بالغداة أمثل أمامك وأترقَّب فتسمع صوتي. وفي الصباح آتي إليك منتظرًا أقوالك" (مزمور ٤: ٥-٥).
وفي الساعة الثالثة ننهض للصلاة ونجمع الإخوة، فيتذكّرون موهبة الروح القدس التي أُعطيت للتلاميذ في الساعة الثالثة ويسجدون جميعهم لكي يستحقّوا هم أيضًا أن يُقدّسهم، ويسألونه أن يقودهم ويعلمهم بحسب حاجاتهم: "قلبًا طاهرًا اخلق فيّ يا الله، وروحًا مستقيمًا جدّد في أحشائي. لا تطرحني من أمام وجهك، ولا تنزع مني روحك القدّوس. ردّ لي بهجة خلاصك، وبروح النشاط ثبّتني" (مزمور ١٢: ١٤-٥٠)، وبعد تلك الصلاة نبدأ بالعمل. إذا كان بعض الإخوة لسبب ما، بعيدين أو منفصلين عن الجماعة، يحتِّم عليهم الواجب، أن يتلوا الفروض المشتركة لأنّ الربّ قال: "حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فأنا أكون في ما بينهم" (متى١٨،٢٠).
وكذلك يجب أن نصلّي الساعة السادسة اقتداء بالقدّيسين الذين يقولون:"مساءً وصباحًا وعند الظهيرة أئنّ وأضطرب فتسمع صوتي" (مز٥٤،١٨)، فتتلو حينئذ المزمور التسعين لننجو من هجمات شيطان الظهيرة (مز٩٠،٦). ولذلك الساعة التاسعة يجب أن تكون مكرّسة للصلاة حسب ما جاء في أعمال الرسل حيث نجد بطرس ويوحنا ذاهبين حوالي الساعة التاسعة إلى الهيكل للاشتراك في الصلاة (أع ٣،١).
وفي نهاية النهار نؤدّي صلاة الشكر على إحسانات الله والأعمال الصالحة التي عملناها بنعمة الله، ونقرّ أيضًا بالخطايا الاختيارية وغير الاختيارية منها التي ارتكبناها بالقول أو بالفعل، وحينئذ نعمل على تهدئة غضب الربِّ بالصلاة. وفي أوّل الليل ينبغي أن نصلّي أيضًا لكي نطلب نومًا هادئًا خاليًا من الأحلام، ونتلو في هذا الوقت أيضًا المزمور التسعين. وفي ما يختصّ بنصف الليل ينبغي أن نستسلم للصلاة حسبما جاء في أعمال الرسل: "وعند منتصف الليل كان بولس وسيلا يصلّيان ويسبّحان الله" (أع ١٦،٢٥)، ويقول المرنّم: "في نصف الليل أنهض لأعترف لك لأجل أحكام عدلك" (مز١١٨،١٤٨) عندما نقرّر أن نفتّش عن مجد الله والمسيح فقط لا يمكننا أن نهمل شيئًا من هذه الفرص.
ينطلق القدّيس باسيليوس من "الصلاة بلا انقطاع" (١تسا ٥،١٧)، و"العمل ليل نهار" (٢ تسا ٣، ٨)، ليصلَ إلى مبدأ الصلاة المتواصلة كما تؤكّد الوعظة النسكية الكباذوكية الأصل: "يجب أن تكون الحياة كلّها زمن صلاة" ( الآباء اليونان ٣١، ١٠١٣-١٠١٦). وإذا حدَّد باسيليوس بعض الساعات التي اعتبرها إلزامية فلأنّها تذكّرنا "بِنِعَم السيّد الخاصة" هذه النعم تفرض علينا أوقاتًا مميَّزة. وإنَّ التشديد على كلمة "إلزامية"، يعني أنَّ باسيليوس يريد أن يبرِّر الفروض السبعة التي يلزم بها رهبانه. كما أنَّه يُبرِّر تطلَّعاته التجديديَّة في الليترجيا وفي الحياة الرهبانية، التي ينتقده عليها إكليروس قيصرية الجديدة، فيجيبهم هو:
"يجب أن تعرفوا أنَّنا نفتخر بأن تكون لنا أديار للرجال وأخرى للنساء يعيشون فيها عيشة مواطني السماء، ويواظبون ليل نهار على الصلاة، يرنِّمون لله باستمرار. وردًّا على الذين يتهموننا بترتيل المزامير، ظنًّا منهم أنَّهم يجارون الناس البسطاء، أقول: إنَّ التقاليد الجارية في كلّ كنائس الله تتفق كلَّها وتتناغم معنا. فعندما ينهض الشعب في الليل ليذهب إلى بيت الصلاة، ويصرخ إلى الله في الضيقات والأحزان والدموع غير المنقطعة معترفًا له. وفي النهاية عند الخروج من الصلاة، يُرنّم الرهبان المزامير منقسمين إلى فرقتين، ويرنم الشعب المزامير بالتناوب، وهكذا يعطون مناعة لتأمّلاتهم في آيات الكتاب المقدّس، وفي الوقت عينه يضمنون انتباهًا أكثر قوّة داخلية. وهكذا بعد أن نقضي الليلة في المزامير المتقطِّعة بالصلوات، عندما يلوح الفجر، يُنشد الجميع بفمٍ واحد مزمور الاعتراف (مز٥٠)، وكلَّ واحد يعتبر أنَّه هو المقصود في كلمات الندامة. إذا كنتم تهربون منَّا بسبب ذلك فأنتم تهربون من تقاليد المصريين والليبيين والثيبيين والفلسطنيين والعرب والفينيقيين والسوريين وسكَّان ما بين النهرين، وبكلمة فإنَّكم تهربون من كلِّ الذين عندهم عادة النهوض من النوم للصلاة والترنيم سوية المزامير.
إنَّ هذا الحديث مسطَّر في تيبيكون القسطنطينية المتَّبع إلى اليوم. ولذكر القدَّيس غريغوريوس هنا أهميِّة خاصة، كما أنَّ لتقاليد البلاد الأرمنية البيزنطية المتَّخذَة عن الرسل قيمتها الكبرى أيضًا: فالبرهان "الرسولي" الذي يقدِّمه باسيليوس ويُتبعه بالبرهان "الجامع" (الكاثوليكي) يجعل كلامه موثوقًا به قطعًا. فالفرض الذي فرض نفسه وطبع الكنيسة بطابع هو الفرض الرهباني الباسيلي. ولقد أراد الرهبان أن يبقوا قريبين من الشعب فاشتركوا في صلوات الرعايا وأضافوا إليها الكثير لكي تُصبح صلاة متواصلة.
القدّيس سابا والرهبان الأورشليميون
بالرغم من الأهميِّة الكبرى للقدِّيس باسيليوس الكبير، فإنَّ اسم القدِّيس سابا هو المحفوظ أكتر من أي اسم آخر في ترتيب الليترجيا وفي التيبيكون. فالقديس سابا (+٥٣٩) كباذوكي الأصل، وقد كان يؤمَّه رهبان كرجيون (جورجيون) وسريان ويونان. يقع هذا الدير على مشارف أورشليم وقد حافظ على الأرثوذكسية، خصوصًا بعد مجمع خلقيدونية، وفي أيام محاربة الإيقونات. وقد تربَّى في هذا الدير كثير من القدِّيسين والمعلِّمين أمثال: يوحنا الدمشقي وقزما مايوما واستفانس الصانع العجائب وأندراوس راهب كنيسة القيامة في أورشليم، الذي أدخل على الفرض القسطنطيني الكثير من العادات الأورشليمية، وأهمَّها الإنشاد.
كان دير القدِّيس سابا على علاقة تبادل مع كنائس آسيا الصغرى، وهذا التبادل سيعود بالنفع والحيوية على كنائس الله خصوصًا من المرحلة الثانية من محاربة الأيقونات، إذ إنّ البطريرك الأورشليمي أرسل في القرن التاسع ثلاثة رهبان، ليساندوا الأرثوذكسية في دفاعها ضِدَّ محاربي الأيقونات. وهم: ميخائيل وثيوذورس وثيوفانيس، وقد كتب هذا الأخير أهمَّ القوانين التي تُتلى في "أحد الأرثوذكسية" الذي نعيّد فيه للإنتصار على بدعة محطمي الأيقونات.
ينسب التقليد المقدَّس التيبِّيكون الموجود في دير القدِّيس سابا إلى القدِّيسين صفرونيوس ويوحنا الدمشقي، كما أنّ بعض السواعيات تنسب نشيد "أيُّها النور البهي..." إلى صفرونيوس.
في القرن التاسع ذهب يوحنا موسخوس وصفرونيوس من دير القدِّيس سابا إلى دير الأب نيلوس في سيناء ووصفا الفرض الإلهي المتّبع هناك، فجاء الوصف مشابهًا للفرض الأورشليمي. ولهذا الوصف أهميِّة مضاعفة إذ أنَّه يفيد في الوصف الكاتدرائي والرهباني معًا للفرض في المرحلة التي تسبق مرحلة دخول قوانين أندراوس الكريتي ويوحنا الدمشقي. وجدير بالذكر أنَّ ثيوذورس الاستودي سيكون صلة الوصل بين تيبِّيكون دير القدِّيس سابا وتيبِّيكون القسطنطينية.
٢) المرحلة الثانية (من القرن الثامن حتى القرن الثاني عشر)
القدِّيس ثيوذوروس ورهبان دير الاستوديون
أسَّس دير استوديون في العام ٤٦٣ الأب استوديون، أحَّد الرهبان الذين لا ينامون وقد أداره القدِّيس مركلوس السوري الأصل في السنة ٤٥٨، وهو من الذين قاوموا أوطيخا بشدَّة وكانت له اتصالات مع البابا لاون. أمَّا دير استوديون فقد دُعي فيما بعد باسم دير القدِّيس يوحنا المعمدان. التحق القدِّيس ثيوذوروس بهذا الدير، وصار رئيسًا عليه في القرن التاسع. يعود التأثير العام لثيوذوروس في الليتورجيا إلى التعليم الكبير والصغير (المختصر) وإلى كتاب الإيبوتيبوس وهو مجموعة من ٣٨ فقرة، فيها قواعد ليتورجية للرهبان وقوانين طعامهم ولباسهم، والعادات الخاصة بالاستوديون، بالإضافة إلى محاضرات روحيِّة ودينيِّة، لا نزال نجد بعضًا منها في التيبِّيكون تُتلى أيام الصوم. ويعتبر ثيوذوروس وأخوه يوسيفوس مؤلِّفَي كتابي تريوذيون الصوم واكتوئيخوس أيام الأسبوع (أمَّا مؤلف اكتوئيخوس الآحاد فهو القدِّيس يوحنا الدمشقي). وهناك عدِّة مؤلَّفات وقوانين شعرية منسوبة إليهما.
يقول ثيوذوروس عن الساعات القانونية: "إذا أخذنا يومنا بِجدِّ فإنَّه يُوصلنا إلى ملء الخلاص، لأنَّنا لسنا متعلِّقين بهموم العالم. فإذا رتَّلنا مع داود النبي، منذ الصباح: "لأقوالي أصخ يارب، تفهم تأوّهي" (مزمور ٥)، وفي الساعة الثالثة هتفنا: "إرحمني يا الله بعظيم رحمتك" (مزمور ٥٠)، وفي الساعة السادسة قلنا: "الساكن في كنف العلي يُقيم في حمى إله السماء" (مزمور ٩٠)، وفي الساعة التاسعة: "أمل يارب أذنك واستجب لي، فإنِّي بائس ومسكين" (مزمور٨٥)، وفي المساء: "باركي يا نفسي الربّ، أيُّها الربُّ إلهي لقد عظمت جدًا" (مزمور١٠٣). فنحن نحيا الخلاص.
نستنتج من هذا الوصف أنّ المزامير المستعملة في السَّاعات هي ذاتها التي نجدها في صلواتنا اليوم، كما نستنتج أنّ الهدف من الصلاة هو البقاء في حضور الله والبلوغ إلى ملء الخلاص. عندما نقارن هذا المقال مع فرض القدِّيس باسيليوس لا يمكننا إلاَّ أن نلاحظ التقارب بين باسيليوس والاستودي، فنستنتج أنّ إصلاح ثيوذوروس للفرض كان إخلاصًا للقدِّيس باسيليوس وعودة إليه. يختلف إيقاع الفرض الاستودي بين الصيف والشتاء، ففي الصيف تقتصر جلسات المزامير على مزمورين، أمَّا في الشتاء فغالبًا ما تربو على ثلاثة مزامير. كذلك يختلف الإيقاع بين الأعياد والصوم. يضفي هذا الاختلاف على الفرض مرونة خاصة. فمن الفصح إلى العنصرة، يُستعاض عن صلاة السَّاعات بصلاةٍ صامتة شخصية يُخفَّف فيها طابع التوبة وطلب الرحمة. وبسبب العمل اليومي، يُختصر من تلاوة المزامير. ويُعفى من تلاوة الفرض الإخوة الذين لا تسمح لهم أعمالهم بالتفرغ في أوقات الصلوات، على أن يتلوها في أيام الصوم كاملة، وعلى الذين لم يتمكَّنوا من تلاوة الفرض أن يتذكَّروا الموت وملكوت الله بشكلٍ مستمرٍّ، وذلك بصلاة قصيرة وصغيرة: "أيُّها الإخوة والآباء، لنسهرنّ على أنفسنا لأنَّنا سنموت (ثلاث مرات) ولنتذكَّر ملكوت السماوات".
تأثير ثيوذوروس:
تأثَّرت أديرة إيطاليا الجنوبية اليونانية بالإيبوتيبوس. وقد كانت هذه الأديرة تدعو القدِّيس ثيوذوروس بـ "أبينا في القدٍّيسين" مثل القدِّيس باسيليوس. في جبل آثوس عندما أسَّس القدِّيس أثناسيوس الآثوسي ديره استند إلى قاعدة هي كتاب ثيوذوروس. في القسطنطينية أثَّر كتاب ثيوذوروس تأثيرًا كبيرًا وخاصة في دير "والدة الإله المحسنة".
٣) المرحلة الثالثة (من القرن الثاني عشر حتى القرن الرابع عشر)
إعتماد الفرض الرهباني مع غريغوريوس بالاماس وحركة الإصلاح الهيسيكاسي:
إنّ احتلال اللاتين للقسطنطينية في العام ١٢٠٤، والإصلاح الهيسيكاسي مع غريغوريوس بالاماس سيفرضان نهائيًا فرض القدِّيس سابا. بينما سيسيطر الفرض الساباوي ويحلَّ محل الفرض الاستودي آخذًا من الفرض الحبري. يمكننا القول إنَّ جبل آثوس أصبح منذ القرن الرابع عشر المهد الرئيسي للفرض الكنسي الذي سيشهد نهضة كبيرة مع غريغوريوس بالاماس وغريغوريوس السينائي الذي تُنسب إليه مجموعة كبيرة من الطروباريات. فالحركة الهيسيكاسية طبعت إذًا الأرثوذكسية العالمية بروحانيتها وليتورجيتها، ووحَّدت الفرض نهائيًا بين الكنائس البيزنطية. وقد واصل البطريرك القسطنطيني فيلوثاوس، الذي أعلن قداسة غريغوريوس بالاماس، نشر إصلاحه في عدد من الميتروبوليتات ووصل إلى بلغاريا وسبيريا وروسيا ورومانيا. وقد تُرجمت كتاباته إلى السلافية وانتشرت في بلاد روسيا في القرن الرابع عشر.