الأسبوع العظيم المقدَّس
الأسماء التي دعي بها هذا الأسبوع
وشرح لأهم معانيه المقدّسة
الأب جان حنّا
للأسبوع العظيم المقدَّس أسماء عديدة، ومعاني روحيّة كثيرة. وسنتوقف في مقالتنا هذه على أهم الأسماء التي دعي بها هذا الأسبوع، وسوف نقدّم شرح سريع لأهم معانيه الروحيّة، والرموز الروحية التي ترد في صلوات كل يوم من أيام هذا الأسبوع المقدَّس.
الأسماء التي دعي بها هذا الأسبوع
- سمي الأسبوع العظيم المقدَّس بـ "أسبوع الغفران"، لأنه كان مناسبة لتوبة الخطأة.
- وسمي بـ "الأسبوع المقدَّس"، بسبب قدسية الأسرار التي نقيم تذكارها فيه. وسوف نتوقف عندها لنشرحها في كل يوم بما يتوافق معه.
- وسمي بـ "أسبوع الآلام"، وذلك بسبب طابع الآلام الذي يغلب في أحداثه وصلواته. ولكن الآلام حتماً تقود إلى القيامة، لذلك تعود في كل يوم ذكرى القيامة التي يشرق فيها المسيح كشمس عدل بهية. ومن هذا المبدأ تعود ذكرى القيامة أيضاً طيلة مرحلة الصوم الأربعيني الكبير الذي هو أيضاً مسيرة نحو القيامة تبلغ قمتها في هذا الأسبوع المبارك.
- وسمي أيضاً بـ "الأسبوع العظيم"، ويقول القديس يوحنّا الذهبي الفم بهذا الشأن: "لا نسميه الأسبوع الكبير أو العظيم لأن أيامه أو ساعاته أطول من أيام الأسابيع الأخرى أو ساعاتها، أو أكثر منها عدداً، بل نسميه كبيراً وعظيماً بسبب كبر الأعمال التي عملها الرب في هذه الأيام وعظمتها". كما رأينا في يوم السبت الماضي أبتدأ بقيامة لعازر من بين الأموات ودخوله يوم أمس إلى مدينة أورشليم كملك إلهي ليملك على قلوب محبيه. وسنرى في الأيام القادمة عظمة الأعمال التي قام بها خلال هذه الفترة المباركة.
- سمي أيضاً بـ "الأسبوع السابع"، لأنه يأتي بعد ستة أسابيع الصوم الأربعيني، وينتهي بأحد الفصح المجيد. وهو بالتالي يتمتع بخاصيّة مقدَّسة مستمدة من الرقم "سبعة"، رمز الكمال. في هذا الأسبوع المقدس تكتمل مسيرة التائب التي عاشها طيلة فترة الصوم الأربعيني، ليتوجها بالقيامة والعبور مع السيد المسيح.
- سمي أيضاً بـ "أسبوع المجد الخلاصي"، ويتضح لنا ذلك من خلال إنجيل يوحنا (يوحنا:١٣، ٣١-٣٢)، والذي يقول: "لما خرج يهوذا ليسلم المعلم، قال يسوع: الآن تمجد ابن البشر، وتمجد الله فيه. إن كان الله قد تمجد فيه، فالله أيضاً يمجده في ذاته، وسيمجده عن قريب". أي في يوم القيامة المقدسة.
- يسمى أيضاً بـ "أسبوع السلام والفرح"، لأن الجو العام الذي يعم في هذا الأسبوع هو جو السلام والفرح الخلاصيين. فيقول السيد المسيح: السلام أستودعكم... لا تضطرب قلوبكم ولا ترتعد... لو كنتم تحبوني لكنتم تفرحون بأني ذاهب إلى الآب... قلت لكم هذا ليكون فرحي فيكم، ويكون فرحكم كاملاً... ولا ينتزعه أحد منكم" (يوحنّا١٤، ٢٧-٢٨؛ ١٥؛ ١١؛ ١٦؛ ٢٢).
المعاني الروحيَّة للأسبوع العظيم المقدس
أولاً- الآلام الخلاصيّة
في يوم الاثنين العظيم المقدّس، تذكّرنا الكنيسة المقدّسة بالآلام الخلاصيّة أولاً: "إنّ هذا اليوم الحاضر يُظهر للعالم الآلام الموقّرة كأنوار مخلّصة، لأن المسيح بصلاحه يبادر ليتألّم..." هذا ما نقرأه في جلسة المزامير الأولى في الكتاب الموجود بين أيديكم ص٣٠.
وفي جلسة المزامير الثالثة من ذات الكتاب أيضاً ص٣٠، نقرأ "إن هذا اليوم الحاضر يُظهر باكورة آلام الرب بهيّة. فهلموا إذن. يا محبي الأعياد نستقبله بالأناشيد....لماذا؟ لأن البارئ يُقبل إلى المحاكمة... ويحتمل هذا كله ليخلص الإنسان". وتحرّكه إلى ذلك كله محبّته وصلاحه.
في هذا اليوم الحاضر يهيّئ الرب يسوع المسيح تلاميذه لهذا الحدث (أي حدث الآلام والصلب)، ويطلب منّا أن نصحبه سريًّا إلى جبل الزيتون ونُصلب معه ونموت لأجله عن لذّات الحياة لنحيا معه. وهذا ما نقرأه في القطعة الأولى من قطع الباكرية ص٤١.
ثانياً- العذارى العشر
وتذكّرنا ثانيًا بمثل العذارى العشر اللواتي خرجن للقاء العروس (متّى ٢٥، ١-١٣). وهو المثل الذي علّمه الربّ ليحثّ على التسلّح بالأعمال الصالحة والرحمة من جهة، وعلى السهر والاستعداد لملاقاة الربّ من جهة أخرى.
وقد سمّى المسيح الخمس العذارى عاقلات لأنّهنّ قدّمن زيت الرحمة بغزارة مع فضيلة البتوليّة، ودعا الخمس الأخريات جاهلات ولم يفرّقهنّ عن الزواني رغم بتوليّتهنّ، لأنّهنّ لم يحفظن الرحمة. ولمّا عبر ليل هذا العمر، نعست العذارى، أي متن، وأتى العريس بغتة، ودخلت العاقلات الرحيمات معه، أما الجاهلات فطلبن من العاقلات زيتًا. الزيت، بالنسبة للكتاب المقدّس، هو المادّة الأساسيّة في صناعة الأدوية وفي الإسعافات الأساسيّة، وفي قناديل الإنارة وفي صناعة الطيوب. فهو إذًا يشفي ويليّن وينير ويطيّب. وادّخار الزيت في المثَل يعني الأعمال الصالحة والفضائل التي علينا أن نحياها على الأرض مع إخوتنا البشر. لذلك فإن كلّ شخص مسؤول عن أعماله في الحياة الأخرى، ولا يمكن أن يقدّم أحد مساعدة للآخر. فالعذارى لا يمكنهنّ أن يَعُدن إلى الباعة (أي إلى المساكين) ليبتعن زيتًا لهنّ، "فبيننا وبينكم هوّة عظيمة قد أُثبتت، حتّى إنّ الذين يريدون أن يجتازوا من هنا إليكم لا يستطيعون ولا الذين هناك أن يعبروا إلينا" هذا ما يقوله لنا الإنجيل المقدس في (مثل الغنيّ ولعازر: لوقا ١٦، ١٩-٣١)، لذلك رجعن خازيات، وبقين خارج الخدر.
"العذراء والبنت" تعني، بالنسبة إلى الآباء الروحيّين، النفس. وقد علّق الذهبيّ الفم، بهذا المعنى، على الآية المزموريّة: "اسمعي يا بنت وانظري، وأميلي أذنكِ وانسَي شعبكِ وبيت أبيك فيصبو الملك إلى حسنكِ، لأنّه هو ربّك له تسجدين" (مزمور ٤٤). مخاطبًا من خلالها النفس لتطيع الملك أي الله، وتترك بيت أبيها أي ماضيها الآثم، لكي تكون بالكليّة لله، فينظر حينئذٍ الله إلى حسنها وجمالها إذ تزيّنت بالفضائل والتقوى. وهذه هي حكمة النفس.
ثالثاً- يوسف الصدّيق
ثالثًا، تذكّرنا الكنيسة أيضًا بسيرة يوسف الصدّيق، وهو الابن الأصغر ليعقوب أبي الآباء، وُلد من راحيل، وباعه إخوته حسدًا بعد أن أخفَوه في حفرة جبّ، وكذبوا على أبيهم إذ أحضروا إليه ثوبًا ملطّخًا بالدم زاعمين أنّ وحشًا افترسه. باعوه للإسماعيليّين بثلاثين من الفضة، وهؤلاء باعوه أيضًا لرئيس خصيان فرعون، ملك مصر. فلمّا هامت بالفتى مولاته وزأرت عليه بجنون لأجل عفّته، لكونه رفض أن يرتكب الفاحشة، سعت به إلى مولاه فسجنه وقيّده بقيود مُرّة.
يوسف بالنسبة إلينا مثال العفّة، فهذا "ترك ثوبه وفرّ من الخطيئة ولم يخجل من عريه"، "لأنّه لم يتعبّد في ذلك الوقت للذّات المصريّة..، لكنّه حفظ نفسه غير مستعبدة.." فمنحه الله إكليلاً لا يذوي. فالتنّين لا يزال يبادر إلى خداع حوّاء المتمثّلة بالمصريّة، ولكنّ يوسف، آدم الثاني، لم ينخدع هذه المرّة كما فعل آدم الأوّل...
أُخرج يوسف من السجن بسبب تفسيره للأحلام، ومثلَ لدى الملك، وصار سيّدًا لكلّ مصر. وبعد سيرة حسنة جدًّا مات عفيفًا وفضيلاً وأمينًا لله.
في ذلك كلّه، يمثّل يوسف صورة السيّد المسيح، الذي اضطهده بنو شعبه حسدًا، وباعوه للغريب بثلاثين من الفضّة، وسُجن في الجبّ المظلم أي القبر، ولكنّه قام بسلطانه الذاتيّ وغلب الخطيئة وصار ملكًا على المخلوقات كلّها، وبمحبّته للبشر ابتاعنا بتوزيع الخبز السرّيّ بما أنّه دفع ذاته لأجلنا، وهو يُعيلنا بخبزٍ سماويّ هو جسده الحامل الحياة.
رابعاً- التينة العادمة الثمر:
رابعًا، تذكّرنا الكنيسة بمثل التينة العادمة الثمر، التي لعنها المخلّص في اليوم التالي لدخوله أورشليم (الشعانين)، أي في مثل هذا اليوم تمامًا (متّى ٢١، ١٨-٢٢؛ مرقس ١١، ١٢-١٤ و٢٠-٢٦)، مشيرًا بذلك، ليس فقط إلى عقم المجتمع اليهوديّ في ظلّ الناموس، بل أيضًا إلى العقاب المحدق بنا إذا لم نحمل في كلّ وقت الأثمار التي يحقّ للربّ أن يجدها فينا، وهي الرحمة (العذارى العشر)، والعفّة (يوسف الصدّيق)، والعدالة ومعرفة الله والسلام والتواضع والتوبة والكفر بشهوات هذا العالم والتحلّي بالأخلاق الإنجيليّة.
كلّ نفس خالية من الثمر الروحيّ تشبه التينة، وعندما يفتقدها الربّ "في الغداة"، أي بعد نهاية الحياة الحاضرة، ولا يجد فيها الثمار يُيَبِّسُها باللعنة ويرسلها إلى النار الأبديّة. رُبّ سائل يقول ما ذنب هذه الشجرة حتى لعنها الربّ وهي لم تخطئ؟ والجواب أنّ المسيح المفيض إحساناته على الجميع، والذي لم يؤذِ أحدًا قطّ، أراد أن يُظهر للشعب العادم الشكر أنّ له سلطانًا بإنزال العقاب كما له سلطان بالإحسان، لعلّه يقتنع فيرتدع.
في قصّة التينة هذه رموز كثيرة. فالمسيح هنا يجوع، وفي مكان آخر يعطش (السامريّة، يوحنّا ٤). التينة مورقة ولكن لا ثمر فيها. إنها تشبه حياة المَظاهر في مجتمعنا، وهي من أخطر آفات العصر (الموضة، الإعلانات، الدعايات، المجتمع الاستهلاكيّ، التأييد الأعمى لزعيم، والتجمهر "اصلبه، اصلبه"، الشهادات الخارجيّة ورق كالتينة، العبادة الكاذبة: تمضية الوقت، الثرثرة، الروح الفريسيّة...). إلخ من الآفات.
وفي الإنجيل المقدس، يشبّه السيّد المسيح المظاهر الفريسيّة بالقبور المكلّسة "التي تبدو من الخارج جميلة وهي من الداخل مليئة بعظام الأموات وكلّ نجاسة، فيدعونا أولاً إلى تطهير داخل الكأس والصحفة لكي يتطهّر خارجهما أيضًا".
واضح أنّ ما يقصده المسيح بـ "الداخل" هو العودة إلى العمق، إلى الملكوت، أي التوبة (مِطانية)، وهذا يقتضي الصمت الداخليّ والإصغاء والصفاء والنقاوة.
العذراء مريم هي مثال الشجرة المثمرة، فهي رغم بتوليّتها حملت الثمرة الأطيب. أما الشجرة العادمة الثمر، فهي عقيمة رغم الأوراق التي تحملها.
يومي الأربعاء والخميس المقدسين
١- يوم الأربعاء العظيم المقدَّس:
في يوم الأربعاء العظيم المقدّس نصنع تذكار المرأة الزانية التي دهنت الربّ بالطيب. لأنّ هذا الأمر حصل قُبيل الآلام الرهيبة بقليل. ونتذكّر بالمقابل خيانة يهوذا.
وتصف الأناشيد الليترجيّة التي نقرأها في هذا اليوم وجه الخاطئة بكثير من الحنان، مشدّدة على أنّ الخطأة والبغايا هم الذين يستحقّون رحمة الربّ. فتتناوب النفس مع المرأة بالهتاف والنحيب والتضرّع إلى الربّ: "ويحي لقد صار لي طغيان الفجور.. ليلاً حالكًا..." لقد تحرّكت هذه المرأة عندما شاهدت شفقة المسيح الداخل إلى بيت الأبرص، الذي يمنع الناموس من مخالطته لكونه نجسًا ومقطوعًا عن الشركة، وقالت في نفسها إنّه سيَقبلني أنا أيضًا. ولما انتهرها التلاميذ ويهوذا، عضدها المسيح لئلاّ يقطعوا عزمها الصالح، وأشار إلى دفنه لعلّ يهوذا يرتدع عن تسليمه.
وإزاء هذه المحبّة تضع الكنيسة أمام أعيننا تصرّف يهوذا التلميذ الخائن الذي كان يساوم اليهودَ على بيع معلّمه.
وتُقدر النفس عظمة الخسارة التي جرّتها الخيانة فتطلب الشفقة عليها من الربّ مشبّهة ذاتها بالمرأة الخاطئة وطالبة الصفح. هذه المرأة تنال المغفرة والتبرير بسبب استعداداتها، على عكس يهوذا. هذا ما نقرأه في (القنداق والبيت).
لقد غرق يهوذا وأظلم في محبة الفضّة، اختار مجدًا آخر، ولَكَم نُعيدُ هذا الاختيار نحن أيضًا! غرق ولم يندم، لم يتُب إلى الربّ، إنه عاقّ وابن الهلاك. بطرس والزانية لم يكونا كاملَين، لقد وقعا، ولكنّهما تابا.
٢- يوم الخميس المقدَّس:
في يوم الخميس العظيم المقدّس تُعيد الكنيسة المقدَّسة إلى أذهاننا ذكرى العشاء السريّ، وفيه غسْلُ السيّد له المجد أقدام تلاميذه ورسْمُ سرّ الإفخارستيّا (القربان المقدّس)، كما إنّها تذكّرنا من جديد بخيانة يهوذا، التلميذ الغاشّ، الذي جسر على الاشتراك بأقداس الربّ وغادر العشاء لكي ينفّذ مؤامرة تسليم معلّمه.
عادة غسل الأرجل:
يبدو من الإشارات إلى غسل الأرجل في العهد القديم (تك ١٨: ٤، ١٩: ٢، ٢٤: ٣٢، ٤٣: ٢٤، قض ١٩: ٢١، ١ صم ٢٥: ٤١، ٢ صم ١١: ٨، نش ٥: ٣) أن غسل الأرجل كان أول شيء يتم بعد الدخول إلى الخيمة أو إلى المنزل بعد العودة من رحلة أو سفر. إذ كان الناس يلبسون نعالاً، وكانت الطرق متربة، وكان غسل الأرجل يتم للنظافة وللانتعاش. وفي حالة الناس العاديين، كان رب البيت يقدم لهم الماء، ويقومون هم بغسل أرجلهم، ولكن في البيوتات الكبيرة كان يقوم خادم بغسل أرجل الضيوف، فقد كان هذا العمل يعتبر من أحط الأعمال (١ صم ٢٥: ٤١).
وقد عاتب الرب يسوع سمعان الفريسي بالقول "إني دخلت بيتك وماء لأجل رجلي لم تُعِط. أما هي فقد غسلت رجلي بالدموع ومسحتها بشعر رأسها" (لو ٧: ٤٤).
وفي الليلة الأخيرة قبل الصلب، غسل الرب يسوع أرجل التلاميذ (يو ١٣: ١-١٦) لكي يعلمهم التواضع، ويغسل قلوبهم من الكبرياء التي كانت فيهم، وجعلتهم يتنافسون على المركز الأعظم، إذ قال لهم: "أتفهمون ما قد صنعت بكم؟ أنتم تدعونني معلماً وسيداً وحسناً تقولون لأني أنا كذلك، فإن كنت وأنا السيد والمعلم قد غسلت أرجلكم، فأنتم يجب عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض، لأني أعطيتكم مثالاً حتى كما صنعت أنا بكم تصنعون أنتم أيضاً" (يو ١٣: ١-١٧).
في النهاية أرجو أن أكون قد وفقت في تقديم الشرح المناسب على ضوء تعليم الآباء وتعليم الكنيسة المقدَّسة. متمنياً أن يثمر صيامنا جميعاً ثماره الروحيّة المرجوة، ونستحق أن نعاين مجد القيامة المقدَّسة.