حياة القدِّيس يوحنَّا الدمشقيّ
الأب رافي حلاوة
لا يزال الجدال قائمًا حتى الآن بسبب سيرة حياة القدّيس يوحنَّا الدمشقيِّ: من كتبها؟ ومتى؟ إنّما الشيء الأكيد لدينا هو أنّ النص الأصليِّ لهذه السيرة قد كُتب في أوائل القرن التاسع عشر باللغة العربيَّة. ثم نُقل إلى اللغة اليونانيَّة والجورجيَّة، ضاع بعدها النص العربيِّ الأصليِّ، وقد تركت لنا بعض المخطوطات نصًّا عربيًّا يُنسب إلى الراهب ميخائيل السمعاني الأنطاكي (١٠٨٥+) نشره الخوري قسطنطين باشا المخلّصي في مجلّة (المسرَّة). إنَّما بعض الدراسات تشّك في صحَّة هذه النسبة إلى ميخائيل الراهب.
وُلد منصور بن سرجون (سرجيوس) وهو اسم القدِّيس يوحنَّا نحو سنة ٦٧٥ م في دمشق: عاصمة الأمويِّين آنذاك، من عائلة عريقة وغنيَّة، عُرفت بفضيلتها ومحبَّتها للعلم وبمكانتها السياسيَّة والاجتماعيَّة، كان أبوه سرجون وزيرًا للملك عبد الملك بن مروان، محبوبًا عند الخلفاء، مكرَّمًا عند المسيحيّين والمسلمين لما اتصف به من خصال عالية وأخلاق حميدة، وكان يستخدم ما له من اعتبار لدى الخلفاء لإعتاق المأسورين، يبدو أنَّ منصور (يوحنَّا) في مطلع شبابه، قد شغل هذه الوظيفة لمدَّة من الزمن. حصل منصور منذ نعومة أظافره على ثقافة أدبيَّة وفلسفيَّة ودينيَّة مهمَّة. فقد ذكرت لنا سيرته أنَّ معلِّمه كان راهبًا كاهنًا يُدعى قزما من جزيرة صقلية، من أسرى الحرب اشتراه والده ثم حرّره (أعتقه) وعهد إليه بتعليم ابنيه: أوَّلهما منصور والثاني قزما ابنه بالتبنِّي. أخذ يلقّنهما أصول البيان والفلسفة. ورأى من الولدين ميلًا كبيرًا إلى الإلهيّات فجعل يشرح لهما علم اللاهوت، فنبغ يوحنَّا في تلك العلوم نبوغًا عظيمًا ولمّا أتمّا علومهما استأذن المعلم قزما الوزير سرجون في الذهاب إلى دير القدِّيس سابا (دير القدِّيس سابا القريب من أورشليم الذي يقع بالقرب من قرية العبيدية إحدى قرى بيت لحم)، ليمارس أعمال النسك فأذن له وأطلقه. مات الوزير سرجون والد القدِّيس يوحنَّا فسلّم الخليفة إلى هذا الأخير مقاليد السلطة التي كانت بيد أبيه وأقامه وزيرًا بدلًا منه ولما كان يتمتَّع به يوحنَّا من علوم عالية ومبادئ ساميَّة، فقام يوحنَّا بأعباء منصبه أحسن قيام رغم حداثة سنَّه وقد أتقن اليونانيّة، لغة الطبقة الراقية من كبار المتعلّمين، واللغة السريانيّة، لغة الشعب المستعملة في الليتورجيا، ورغم أنَّ كلّ كتاباته التي وصلت إلينا كانت باليونانيَّة فمن المؤكَّد أنَّه كان يعرف العربيَّة أيضًا لغة عائلته الأصليّة. بينما انتحل قزما أخوه بالتبنّي الحياة الرهبانيَّة في دير مار سابا.
ثم ما لبث منصور، وكان قد بلغ الثلاثين من عمره (ولأسباب نجهلها وقد تكون سياسيَّة حيث إنَّه في عهد الخليفة عمر الثاني (٧١٧-٧٢٠) صدر قانون حظَّر فيه على المسيحيَّين أن يتسلَّموا وظائف رفيعة في الدولة ما لم يُسلموا، تمسَّك يوحنَّا بإيمانه وتخلَّى عن مركزه. ولم يكن القانون هذا هو السبب الوحيد في ترك يوحنَّا وظيفته، بل زهده في الدنيا وميله إلى الحياة الرهبانيَّة). أن ذهب إلى دير القدِّيس سابا ودخل في الحياة الرهبانيَّة، وكان قد سبقه إليها أخوه في التبنّي قزما ومعلِّمه، وله حوالي الثلاثين من العمر. فأحبَّ هناك الحياة النسكيّة وراح يتعمَّق في اللاهوت على يد البطريرك الأورشليمي يوحنَّا الرابع (٧٠٦-٧٣٤) الذي كان غالبًا ما يطلبه لإلقاء المواعظ والخطب في أورشليم. وهناك اتخذ اسم يوحنَّا ربمّا تيمّنًا بأستاذه البطريرك.
في ذلك الوقت (نحو سنة ٧٢٥) قامت بدعة تحارب تكريم الأيقونات المقدَّسة، قام بها الملك لاون الإيصوري، مدَّعيّة أنَّ هذا التكريم إنَّما هو عبادة وثنيِّة، هذه البدعة متأثِّرة بالطبع من الدين الإسلاميّ الذي كان ينتشر بسرعةٍ في الشرق المسيحيِّ، وأمر الملك بتحطيم الأيقونات ونزعها من الكنائس والبيوت وأثار على الكنيسة حربًا وأرسل الجند إلى الكنائس والمنازل فأخذوا يكسرون ما وصلت إليه أيديهم من الأيقونات الثمينة ويحملون إلى خزائن الملك صفائح الذهب وأكوام الحجارة الكريمة التي كانت تزين تلك الأيقونات. فثار الأساقفة والكهنة والرهبان وجمهور الشعب واستماتوا في الدفاع عن إيمانهم الذي لا يقدّم عبادة سجود للذهب وللخشب وللمواد المصنوعة منها. فهبّ يوحنَّا بكل ما لديه من قوَّة وثقافة يدافع عن التمسُّك بالسجود للأيقونات المقدَّسة موضحًا أنَّ هذا السجود إنَّما هو مجرد تكريم للأشخاص الممثّلة في الأيقونات، وليس هو على الإطلاق عبادة الصور. وقد فعل كلّ ذلك، رغم أنّه لم يكن من ذوي المراتب الكهنوتيَّة المقدّسة. وفي هذا المجال، تسرد لنا سيرته أنَّ لاون الملك، لحقده على يوحنَّا حاول أن يخنق صوت الدمشقيِّ بالحيلة فاستدعى أمهر الخطاطين لديه وطلب منهم أن ينسخوا له رسالة كتبها زورًا وكأنَّها مرسلة إليه من القدّيس يوحنَّا يستعين به (الإمبراطور) على الخليفة، وأرفق لاون الرسالة المزوَّرة بأخرى شخصيَّة عبَّر فيها للخليفة عن رغبته في السلم والصلح بينهما وللتأكيد على ذلك يرسل إليه صورة الرسالة التي أرسله إليه يوحنَّا، فلمَّا اطلع الخليفة عمر بن عبد العزيز على الرسالتين استبدّ به الغضب الشديد وأرسل في طلب يوحنَّا وواجهه بهما. فدافع القدِّيس عن نفسه ولكن دون جدوى، فأمر الخليفة السياف بقطع يد القدِّيس اليمنى، فما كان من القدِّيس إلاَّ أن دخل غرفته وطرح جسده على الأرض قدَّام أيقونة السيِّدة العذراء، ذات الشفاعات غير المردودة وألصق كفه المقطوع إلى زنده وتوسّل إليها من قلبه، وفاضت عيناه دموعًا محرقة منحدرة على صدره قائلًا: أيَّتها العذراء الطاهرة والدة إلهنا الكلمة الأزليّ، بتجسُّده من دمائك النقيِّة لمحبَّته الجزيلة لجنس البشريّة، أسألك أن تتوسَّلي إليه من أجلي... لكي تردّي يدي إلى ما كانت عليه أوَّلًا كاملة، صحيحة من كلِّ ألم وقطع، معافاة وتُظهري عبدك جزيل تحنّنك (كذا) لكي لا يبطل لساني ما عشت من مدحك، لأنَّك قادرة على ما سألتك. وللحين غفت عيناه فرأى المتحنِّنة بشكلها وهيئتها ناظرة إليه بطرفها وقائلة له: قد عُوفيت يدك، فأنجز لإلهك نذرك، ولا تؤخر عهدك. فاستيقظ بفرحٍ وسرور، ونهض واقفًا على رجليه، مصلّيًا شاكرًا. وترنّم للوقت بما يلائم سرعة إجابته في توسّله وكمال عافيته لساعته. ولقد خلّد لنا الطقس البيزنطي أيقونة العذراء ذات الأيدي الثلاث، رمزًا للأعجوبة المذكورة.
وإثر الأعجوبة، حاول الخليفة استعادة يوحنَّا ولكنَّ قدِّيسنا كان قد زهد في الدنيا وتاقت نفسه إلى حياة النسك والعبادة فاستأذن الخليفة وترك البلاط وباع أملاكه ووزّع ثمنها على الفقراء والأيتام والكنائس والأديرة وسافر قاصدّا دير القدّيس سابا وأتى الدير وتضرع إلى الآباء أن يقبلوه في عداد صغار الرهبان. دخل يوحنَّا الدير مشغوفًا بحبِّ الابتعاد عن العالم وممارسة الفضائل الرهبانيَّة والطاعة والتواضع وقهر النفس. ولمّا كان اسمه قد ملأ الدنيا خاف رئيس الدير أن يكون دخوله مؤقَّتًا ثم يعود إلى حياة النعيم التي تعوّدها وأراد أن يمتحنه فعيَّن له مرشدًا راهبًا طاعنًا في السن كثير التقشُّف شديدًا على نفسه وعلى غيره فكان يوحنَّا يسير بموجب إرشادات أبيه الروحيّ فأدهشت طاعته رهبان الدير ولا سيما عندما رأوه يجيد أحقر أعمال الخدمة التي كان يفرضها عليه مرشده، وكان يوحنَّا ينزوي في صومعته، في دير مار سابا يؤلّف مع أخيه قزما الترانيم والقوانين الدينيّة التي لا تزال الكنيسة تترنّم بها إلى يومنا هذا. وكانت قريحته فيّاضة لدرجة أنّه استحقَّ أن يُدعى فيما بعد ب "مجرى الذهب". ثم شاءت العناية الإلهيّة أن يُنتخب قزما أسقفًا على مايوم، المعروفة اليوم بميلمس (قرب غزة)، وطلب مرارًا إلى يوحنَّا أن يرتسم كاهنًا. وكان في كلّ مرّة يرفض، إلى أن استحضره بطريرك بيت المقدس وسامه كاهنًا بغير مراده، بل بكثرة إلزامه إيّاه غلبه على رأيه. ولما عاد من عنده إلى الدير زاد في نسكه وأتعابه. وانعطف إلى تصنيف أقواله التي سرت إلى أقصى المسكونة.
ويعتبر المؤرخون أنَّ رسامته قد تمّت بوضع يد البطريرك الأورشليمي يوحنَّا الخامس (٧٣٥).
تُوفي القدّيس يوحنَّا الدمشقيِّ على الأرجح سنة ٧٤٩ في ديره المذكور، بعد أن قضى حياة طويلة في النسك والتأليف. فدُفن هناك وبقي قبره معروفًا ومكرّمًا حتى القرن الثاني عشر. ومن ثم نقلت عظامه على مايبدو إلى القسطنطينيَّة. وما كاد يموت حتى ذاع صيت قداسته، فأخذ الشعب في تكريمه وإنشاد تآليفه الليترجيِّة والرجوع إلى كتبه اللاهوتيِّة... وهذا ما حمل البابا لاون الثالث عشر على إعلانه سنة ١٨٩٠ "معلِّمًا للمسكونة"، في مصفّ سائر آباء الكنيسة الجامعة.
تحتفل كنيستنا بتذكاره في اليوم الرابع من شهر كانون الأول وترنم له الطروبارية التالية:
"يا د ليل الإيمان القويم، ومعلّم التقوى والسيرة الحميدة. كوكب المسكونة وزينة المتوحّدين. يوحنَّا الحكيم ملهم الله. لقد أنرت الجميع بتعاليمك، يا قيثارة الروح. فاشفع إلى المسيح الإله في خلاص نفوسنا".
مؤلَّفاته:
١- ينبوع المعرفة ألّفه في أواخر حياته تلبيةً لطلب أخيه بالتبنّي قزما وينقسم إلى:
آ- علم النفس والمنطق: يناقش فيه التحديات الفلسفية بحسب أرسطو وأباء الكنيسة، ويشرح دور الفلسفة بالنسبة إلى اللاهوت ويضم ٥٢ فصلًا، يعتبر مقدمة لما يليه من أجزاء.
ب- أغلب الهرطقات.
ج- الأمانة الأرثوذكسيّة أو الإيمان الأرثوذكسيّ أو المئة مقالة في الإيمان الأرثوذكسيّ. يتضمّن عرضًا لأهم عقائد الإيمان المسيحيّ، استعمله المسيحيون في الشرق لدراسة اللاهوت.
٢- مختصر الأمانة الأرثوذكسيّة: كتبه يوحنَّا لإيليا مطران يبرود.
٣- مقالة عن الثالوث وهي عبارة عن سؤال وجواب.
٤- مقالة عن "قدوس قدوس قدوس" موجّهة إلى الأرشمدريت جردانوس يبيّن أن هذه الصلاة موجّهة إلى الأقانيم الثلاث وليس إلى الابن وحده.
٥- مقدّمة عامة عن العقائد: كتبها أو بالاحرى جمعها تلاميذه عنه وتعتبر ملخّصًا لكتاب ينبوع المعرفة. أرسلها يوحنَّا إلى يوحنَّا مطران اللاذقية.
٦-٧-٨- ثلاث مقالات للدفاع عن الأيقونات المقدسة: كتبها بين سنة ٧٢٦-٧٣٠ بعد صدور المرسوم ضدّ تكريم الأيقونات المقدّسة.
٩- مقالة ضدّ أسقف يعقوبي: يرفض فيها آراء اليعاقبة ومبادئهم وخاصّة قولهم أن في المسيح طبيعة واحدة.
١٠- مقالة ضدّ المانويّة: وهي على هيئة حوار بين أرثوذكسيّ ومانويّ لإظهار أخطاء الثنائيّة.
١١- جدال بين مسلم ومسيحي: يدافع فيه عن عقيدة التجسد ويرفض نظرية القضاء والقدر.
١٢- مقالة ضدّ الساحرات.
١٣- مقالة في الطبيعة المركّبة: رفض لآراء القائلين بالطبيعة الواحدة.
١٤- مقالة في أن للمسيح إرادتين: وهي رد على القائلين بأنّ للمسيح طبيعة واحدة.
١٥- مجادلة يوحنَّا الأرثوذكسيّ: مع مانويّ يرفض أفكار ماني.
١٦- مقالة ضدّ النساطرة: القائلين بأن للمسيح شخصين كما أنّ له طبيعتين.
١٧- مؤلف في شرح رسائل القدّيس بولس، وقد استوحى فيه من كتابات يوحنَّا الذهبيّ الفم وكيرلّس الإسكندريّ.
١٨-مقالة قصيرة في الصوم إلى أخيه الروحيّ كوميت.
١٩- مقالة عن الأرواح السيئة يعالج فيها الخطايا التي يرتكبها الراهب ضدّ الحياة الرهبانية.
٢٠- مقالة في الفضائل والرذائل.
٢١- المواعظ أهمّها: أولًا، في رقاد السيدة. ثانيًا، عن ولادة السيدة وعن التجلّي والتينة اليابسة التي لعنها يسوع، وآخر يوم السبت العظيم.
٢٢- مؤلفات طقسيّة وأناشيد دينيّة، وأخصّها للعذراء من بينها ترتيلة "إن البرايا بأسرها... كما ألف أيضًا قوانين طقسيّة للقيامة المقدّسة، وللميلاد...