الله غنيّ بالرحمة
الأب د. شحادة عبود عبود
أعلن قداسة البابا فرنسيس الأوّل في ١٣/٠٣/٢٠١٥، في ذكرى انتخابه، أثناء احتفاله برتبة سرّ الاعتراف في بازيليك القدّيس بطرس افتتاح يوبيل الرحمة الاستثنائيّ في ٠٨/١٢/٢٠١٥. يدعونا قداسة البابا فرنسيس إلى التأمّل بسرّ الرحمة في هذه السنة المقدّسة ويدعونا إلى عيش فرح اللقاء مع الله الرحيم وتجديد علاقتنا بالإنسان من خلال الغفران والمسامحة.
وضع البابا فرنسيس صلاة يوبيل الرحمة الاستثنائيّ وأوكل تنظيم هذا اليوبيل إلى المطران رينو فيزيكلّا، رئيس المجلس الحبريّ لتعزيز التبشير الجديد بالإنجيل. وقد وضعت هذه الصلاة في بداية الكتاب لأنّها خير ما يمكن البدء به لأنّ الصلاة هي المحرّك الأوّل لدخول غمار اليوبيل.
يعصف في عالم اليوم، العديد من التيّارات الافتراضيّة خصوصاً في المجال المعلوماتيّ بسبب الاستخدامات الخاطئة له. وقد ابتعد الإنسان عن الآخر واكتفى بأن يرسل له بعض الرسائل أو أن يضع شعوره وحالته الداخليّة على، ما يُدعى، "وسائل التواصل الاجتماعيّ". وعلى الرغم من أنّ الكلّ يعرف كلّ شيء عن الآخر، وقرّب العالم الإلكترونيّ المسافات بين الأشخاص، لكنّ الخطر يكمن في الابتعاد عن اللقاء الحسّيّ والقيام معاً بأفعال إنسانيّة حقيقيّة تجسّد المحبّة والانتباه للآخر والشعور به. يمكننا لقاء الله من خلال التأمّل واللقاء الحسّيّ معه في الإفخارستيّا ومع الإنسان الآخر.
كيف أعيش اليوبيل؟
حدّد قداسة البابا فرنسيس تمنّياته في رسالته التي أرسلها إلى المطران رينو فيزيكيلا في ٠١/٠٩/٢٠١٥ قائلاً: "أتمنّى أنْ يشمل الغفران اليوبيليّ كلّ المؤمنين باعتباره خبرة حيّة لقرب الله من الخاطئين سانحاً الفرصة أمام الجميع لِلَمْسِ حنان الله بإصبعهم فيقوى إيمانهم وتتفعّل شهادتهم".
أعطى البابا فرنسيس خطوات عمليّة لتكون "هذه السنة المقدّسة لقاءً فعليّاً للمؤمنين برحمة الله":
١- أن يحجّ المؤمن الراغب في أن ينال الغفران في خلال يوبيل الرحمة، ويدخل الباب المقدّس الذي سيُفتح في كلّ كاتدرائيّة أو كنيسة أو مزار يحدّده الأسقف المحلّيّ وفي كلّ البازيليكات الأربع الموجودة في روما كعلامة للارتداد. وقد فسّح البابا لكلّ "المرضى والمسنين الذين يعجزون عن مغادرة بيوتهم طالباً منهم تناول القربان المقدّس والمشاركة في القداديس عبر وسائل الإتصال بالإضافة إلى كلّ المساجين الذين يعبّرون عن توبتهم الحقيقيّة وزيارة الكابيلاّت الموجودة في السجن".
٢- إنّ المسيرة الشخصيّة خلال اليوبيل هي عيش الندامة عن الخطايا والاعتراف بها أمام الكاهن.
٣- الاشتراك بالقدّاس الإلهيّ وتناول جسد المسيح.
٤- تلاوة قانون الإيمان.
٥- تلاوة صلاة خاصّة لأجل قداسة البابا ولأجل نواياه القلبيّة التي هي لخير الكنيسة المقدّسة وخير العالم أجمع.
٦- القيام بتجسيد اليوبيل من خلال أعمال الرحمة الروحيّة والجسديّة.
شعار اليوبيل
لقد شرح الأب ماركو ايفان روبنيك اليسوعيّ شعار اليوبيل وركّز على موضوع الرحمة متأمّلاً بما قاله يسوع: "كونوا رحماء كما أنّ أباكم هو رحيم" (لوقا ٦: ٣٦) ، ووضع الأب روبنيك هذه الجملة باللغة اللاتينيّة على طرف الشعار.
صوّر الأب روبنيك شخص المسيح الراعي الصالح الذي يحمل آدم على منكبيه كما يحمل الراعي الخروف الضالّ ويعيده إلى الحظيرة وأراد أن يعزّز حقيقة لمس المسيح لجسد آدم بمحبّته المخلّصة التي تمنح الإنسان الحياة الجديدة. وصوّر الأب روبنيك المسيح باللون الأبيض لأنّه نور العالم وهذا النور الناصع هو نور القيامة وغلبته حتّى على أعماق الجحيم عندما داس الموت والظلمة المتمثّلة باللون الأسود، ونرى أنّ يسوع قد تمنطق بالحزام الأحمر اللون، دلالة على أنّه حاضر للخدمة وإعطاء الحياة بدمه، ودعا آدم إلى أن يحبّ على مثاله. ونرى في الرسم أنّ آدم يسلّم يديه وقدميه بيدَي المسيح اللّتَين تَظهر عليهما علامات المسامير، وقد أُلبس اللون الأخضر المائل إلى الذهبيّ الذي يرمز إلى الخليقة المخلّصة. إنّ وجه المسيح يلاصق وجه آدم ويتّحدان معاً إلى أن تصبح عين المسيح اليمنى وعين آدم اليسرى عيناً واحدة، لأنّ المسيح تجسّد ليرى بعين آدم، إذ إنّ الله يرى بعين الإنسان، وليرى آدم بعين المسيح وهذا هو معنى الخلاص أي أن يصبح الإنسان يرى بعين الله: أن نرى من منظور الله كلّ شيء.
لقد وضع الأب روبنيك هذا المشهد في لوزة من اللون الأزرق متدرّجاً من الأزرق الغامق إلى الأزرق الفاتح. وكما نعلم أنّ شكل اللوزة في رسم إيقونات القرون الوسطى يدلّ على حضور الطبيعتَيْن الإلهيّة والإنسانيّة، وأراد الأب روبنيك في تدرّج الألوان أن يعبّر عن الحقيقة اللاهوتيّة: أنّ يسوع بطبيعتَيْه يريد أن ينقل آدم من ليل الموت المظلم إلى نور الحياة .
حاولت التأمّل في معنى الرحمة وفي أمثال الرحمة عند لوقا الإنجيليّ التي ذكرها البابا فرنسيس في براءة إعلان يوبيل الرحمة الاستثنائيّ Misericordiae Vultus "الوجه الرحوم". يؤدّي الفهم العميق لكلمة الله إلى تجسيد الرحمة من خلال أعمال الرحمة الروحيّة والجسديّة. كما سعيت في هذا الكتاب إلى تقديم شرح لمعنى اليوبيل في الكتاب المقدّس وفي تاريخ الكنيسة الكاثوليكيّة؛ وحاولت شرح الباب المقدّس مضيئاً على تاريخيّته والرتب الخاصّة به والمعنى الروحيّ. وتوسّعت قليلاً في شرح الحجّ اليوبيليّ في الكتاب المقدّس وعند آباء الكنيسة خلال تاريخ الكنيسة وذكرت المعنى الروحيّ للحجّ؛ وأخيراً عرّجت على قضيّة الغفرانات الشائكة وتاريخها واقتصرت على ذكر تعليم الكنيسة فقط.
يحثّنا قداسة البابا فرنسيس إلى رفع مستوى اللقاء بالله وبالآخر في هذه السنة اليوبيليّة المقدّسة لنسعى إلى تجسيد المحبّة بأفعال رحماويّة تنهض بالإنسان إلى مستوى الله الرحيم الذي أتى لينزع عنّا كلّ ثقل وبؤس وليفيض في قلوبنا بذوره الإلهيّة ولنعيش كما فعل يسوع مع الإنسان بأن ننحني ونحنو على الآخر ليقوم من جديد وتولد الإنسانيّة فينا وفيه. بذلك نشابه الآب السماويّ ونكون رحماء كما أبانا هو رحيم.
يوبيل الرحمة الاستثنائي
٢٠١٥/١٢/٨ - ٢٠١٦/١١/٢٠
© جميع الحقوق محفوظة للمؤلّف
بطريركيّة الروم الملكييّن الكاثوليك
باب شرقي، دمشق ص. ب. ٢٢٢٤٩