الإيمان
الأب رافي حلاوة
يتضمّن هذا الموضوع شرحًا للإيمان كفضيلة إلهيَّة، استنادًا إلى بعض المعطيات الكتابيَّة التي تسلِّط الأضواء على اختبار الإنسان العميق في بحثه عن الله. وهو يتطرّق إلى الترجمة العملية للإيمان من خلال التوسّع في عرض ميزاته التي تتلخّص في الاعتراف به والشهادة له ونشره وممارسته. والبعد العقائدي للإيمان، كموقف أو أساس للحياة الأخلاقية المسيحيّة، موقف المؤمن من الواقع الذي يعيش فيه شخصيًا في المجتمع، واقع الإيمان في مجتمعنا والتحدّيات والمشكلات التي تواجه المؤمن في مجتمع اليوم، هناك مبادئ عامة صالحة لكل البيئات، لكنَّ الواقع الشرقيِّ ليس مسيحيًّا، فهو في واقع غير الواقع الموجود فيه، والإيمان يتجسّد في البيئة والظرف الذي يعيشه، فيجب أن يُفهم واقعه وظروف إيمانه، وعناصر ومبادئ الإيمان الذي يعيشه.
المجتمع الأميركيّ، هناك كاثوليك وإصلاحيون ورفاهية في العيش، ومستوى الحياة جيّد، هناك انفتاح كبير على التقنيَّة والعلم والتجارة والاقتصاد. فما حاجة المسيحيّ في أميركا أن يفكّر في إيمانه؟ فإذا أراد أن يفكّر في مبدأ التضحية أو التجرّد أو استخدام المادة، فبأي تصوّر يفعل ذلك؟ فالمجتمع مكتفٍ ولا حاجة للاعتناء بالغير. فما يفعل عند ذلك؟ يقوم بالحدّ الأدنى من واجباته، ولكن الهمّ المباشر لكي يعيش الإيمان غير موجود. فكلما خفّت الهموم، خفّ التفكير بالإيمان، فلا نستطيع أن نقول إن الإيمان يأتي من الخارج، بل هو لقاء وعيش بأفكار وواقع يمسّ المؤمن، فلا بدّ من الانتباه إلى واقع حياته الشخصيَّة والاجتماعيَّة خصوصًا وأنَّ الإيمان هو لقاء بين ما يصدر منا وما يأتي من الله، وهو أيضًا خلق توازن للعيش بإيمان بحدّ أدنى من السلام واللقاء مع الآخر، الإيمان بنظرة الكنيسة بنظرة جماعة، الحاجات الملحّة والواقع الظاهري المباشر الذي نعيشه. في مجتمعنا هناك دعوات تنادينا لنفكِّر بالإيمان المسيحيّ على المستوى الكنسي، أي مستوى الجماعة المسيحيّة ذاتها، علاقة بين المؤمن وجماعته المسيحيّة، واقع الكنيسة في الشرق المسيحيّ يدعو إلى التفكير.
هناك صور من الإلحاد، ومن اللامبالاة التي تظهر في حياة المؤمن، ويتأثّرون بها، اللامبالاة تمحو فكرة الإيمان وفكرة الله ومفهوم الكنيسة. لا شكّ أنه يجب التفكير في جذور هذه الصور من جهتين: جهة المؤمن ذاته، والمحيط الاجتماعي الذي يعيش فيه، تأتي هذه الجذور فلا نستطيع معالجة ظاهرة دون معرفة مصدرها، هذه الصور لا شكّ أن جذورها موجودة وأتت من خلال التاريخ الذي عاشه الإنسان. اللامبالاة في الحياة بالمعنى البسيط، لأن موضوعه الذي يعيشه الإنسان هو عدم الاهتمام بالوجود. فكرة الله في حياة الإنسان تنتقل من فعل كبير إلى مرحلة الوجود والضعيف والأسباب عديدة، وأهمّ وأعظم سبب هو الإنسان ذاته وهو نفسه في طريق اكتشاف ذاته وقدراته وتحكّمه وسيطرته على المعرفة والعالم والحياة مما جعله يهمل ويزدري أو يضعف فكرة الله، وينمو الله من زاوية المعنى الذي يمكن أن يعطيها الله له.
علاقة الإنسان والعالم
العلاقة بين الإنسان والعالم ليست مستقلّة عن الله، فيكون الإنسان يتعامل مع العلم والتقنيّة والكون، فاتجاهه يميل إلى بعد زمني مادي عالمي، فيجعله يحصر اهتمامه في أمور هي في النهاية لا تشجِّع فكرة الله كقيمة وهذا ما يسمّى بالإلحاد المادي الواقعي هو أن الله غير حاضر في حياة الإنسان. مثلًا إن الدولة تعترف بالحرّية الدينية لكن ضمن حدود العمل الكنسي فقط دون المساس بأي عمل آخر كالسياسة. وإذا حصل فيصبح هناك صدام بين الكنيسة والسياسة، فعل الإيمان يعطي حقّ التفكير في الواقع السياسي، أو الإيمان يكفي أن يعاش ذاتيًا بشكل محدود دون أن يطال الواقع السياسي أو الاجتماعي والسياسي مع الواقع الذي يعاش مع غير الأديان. هذا هو الجواب على الدعوة الموجودة في المؤمن والتي عليه أن يوصلها إلى أبعد ما يمكن لغايتها.
إلى جانب هذه الصور وجذورها بين الله والعالم وخصوصًا في الإنسان الذي يكتشف قدراته وإمكانياته، فنجد في مجتمعنا أطرًا لعيش الإيمان تختلف أو تناقض أحيانًا حقيقة الإيمان المسيحيّ، تيارات روحية أو شيع موجودة في المجتمع، الإيمان سيواجه هذا النوع من التحدّي، ولا يمكن مواجهتها بالرفض أو بالإدانة، وكأن كل ما هو موجود عن هذه التيارات أو الشيع مرفوض من الإيمان جملة وتفصيلًا، ونحن لا نملك الحقيقة كاملة. لا بدّ من فهم المادة ليس من الزاوية العقائدية فقط، بل من زاوية الإنسان الذي ينتمي إلى هذه الشيع، ومن زاوية الحاجة التي يشعر بها الانسان عندما ينتمي إلى هذه الشيع.
التساؤلات العميقة التي يطرحها الإنسان ويسعى إلى إيجاد الأجوبة عليها (لا بدّ من الاعتراف بأن هناك أجوبة عديدة خارجة عن المسيح) وهي فهم أجوبة الآخرين عن تساؤلات، فلا يمكن أن يبدأ بالرفض والإدانة، هذا المبدأ الذي أطلقه السيد المسيح يطبّق على مجمل الأمور الحياتية (ما جئت لأنقض بل لأكمل). اعتراف المسيح بإيجابية كل ما سبق، يهودي _ وثني، الإنسان المخلوق على صورة الله، فلا بدّ أن ننظر إليه نظرة إيجابية، وخصوصًا أن الانسان حامل منذ القديم أن يعرف شيئًا عن البعد الآخر الذي هو البعد الإلهي.
علاقة الإنسان مع الله
يدرك الإنسان في عمق أعماقه أن هناك صلة بينه وبين الله مع اختلاف الصور والمفاهيم، لكن فكرة الله أنه تجسّد أنه حقيقة موجودة ليس داخل الإنسان فقط بل خارجه أيضًا، وعليه أن يسعى إليه، فنلاحظ مواقف عديدة وأوضاع مختلفة، فيجب أن يكون هناك تفهّم وخصوصًا في التعامل مع مسألة الإيمان الشاملة والواسعة، فلا يكفي أن نقول بأن الإيمان فعل، أنا أعترف بإيماني، بل عندما أقول أنا مؤمن أن أعيش كل شيء وأراه وأفهمه من زاوية العلاقة الإيجابية، أفتّش عن الحقيقة والفهم، وسبر أغوار المعرفة من خلال علاقتي الإيمانية بالله، اختبار الإيمان بطيء وطويل ومعقّد، فكيف إذا كنا أمام اختبار إيماني آخر ونأخذ معه موقف (رفض أو إدانة)، فالدعوة مع الواقع الذي نعيشه هو دعوة موجّهة لنا لكي نفهم الطريقة التي من خلالها نعيش إيمان المسيحيّ مع الآخرين. دعوة إلى توجيه الإيمان وفهمه، هي إيماننا المسيحيّ يتعلّق أيضًا بمفهوم العمل الرسولي الذي نعيشه تجاه الكنيسة في الشرق. الواجب المباشر لهذا المبدأ هو أن يتمرّس المؤمن على فكرة أو حالة الانفتاح، أن يدرك ويعي أن بينه وبين الكنيسة وحدة، علاقة، وهذا يساعد على عيش اختبار الإيمان بمردود إيجابي على المجتمع. يقول مار بولس عن المسيح إنه جعل من المبعدين أقربين، الانفتاح هو من أبواب الخلاص بالإيمان، ويثمر الإيمان المنفتح أكثر من النفسية المحصورة ببيئتها، فكرة الانطلاق التي يتكلم بها المسيح لتلاميذه: هلم لننطلق...
إن اتخاذ موقف الإيمان وتعميقه في الحياة هو الجواب الذي يعطيه كل مؤمن على التساؤلات التي يطرحها في حياته الشخصية، فالإيمان هنا يرافق مراحل النمو التي يعبرها الإنسان. الإنسان بحاجة للإيمان ليشعر بالاستقلالية ليعرف أن الله يعني له ليشعر بوجوده في حياته، لذلك تولد أزمة طبيعية من خلال الحياة، وليس من خلال تعليم ومعلومات محصورة بالتعليم المسيحيّ. الطفل لا يدرك ذلك لأن ليس عنده تساؤلات ولا يبحث عن حريته.
الله مع الحرية لأن الإيمان يستوجب فرائض لا يمكن الاستغناء عنها فالصلاة والعمل الرسولي وهذه الفرائض قد تقف في وجه حرية الإنسان، فلذلك الحرية يجب أن تتكيّف مع الإيمان، ولكن صورة الإيمان تطبّق على الحرية فيكون هناك الرفض. إن النموّ يتمّ على مراحل، لذلك يجب الوعي والتفهّم لهذه المراحل ليصل الإنسان إلى علاقة إيجابية واعية ومثمرة لحياته وللآخرين.
الإيمان ليس على مستوى الفريضة، بل على مستوى الاختبار الشخصي، فمسألة الحرية مسألة مهمة في الإيمان على المستوى الشخصي. يجب وعي البعد الكنسي في الإيمان، أي جعل الإنسان المؤمن في قلب الجماعة المسيحيّة، الكنيسة تسمح بنضوج إيمانه فيفترض بذلك الابتعاد عن فكرة الإيمان كعلاقة فردية.
على مستوى العمل أو الممارسة، هل الإيمان هو حالة باطنية؟ هل هو مجموعة كلمات أو أفكار أو معتقدات يحلّها الإنسان في نفسه ويعترف بها فقط أم أن الممارسة هي من علامات أو ميزات الإيمان المسيحيّ؟ الكنيسة بتعليمها الأخلاقي اعتبرت الإيمان فضيلة إلهية، وكلمة فضيلة تشير إلى نوع من الثبات والاستمرارية حقيقة دائمة. لا يصحّ القول إن الإيمان فضيلة إلهية إذا كان في حياة المؤمن مسألة عابرة ظرفية. هي حالة نتيجة تمرّس من خلال اختبار طويل، الإيمان يصبح مستقرًا في نفسية الإنسان فلا يستطيع أن يفهم ذاته وما حوله إلاّ بالعودة إلى المصدر المتمسّك به والمتجذّر فيه. هذه هي الفضيلة وهي مرحلة متقدمة على مرحلة النضوج.
الله يلعب دوره والروح القدس أيضًا بدءً من المعمودية، والدخول إلى المسيحيّة والكنيسة، والإنسان له دور كبير في استمراريتها والحفاظ عليها، لذلك كل شيء يدخل في عالم الإيمان وفي اختبار الإيمان، لذلك الإيمان في النهاية يترافق مع معنى الحياة، وأساس ومصدر وغاية الحياة، الحقيقة في الحياة، والوصول إلى الجوهر للوصول إلى الإطار الكامل والواسع لعيش الحياة. الإيمان هو حالة توحيدية، يوحّد حالة الإنسان من خلال فضيلة الإيمان. كلمة الإيمان بحدّ ذاتها تدلّ على الأمان والتأمين والسلام والثقة واليقين والصدق.