الوكيل الخائن
كيف نرضي الله بأموالنا؟
الأب جان حنَّا
"وَقَالَ أَيْضاً لِتَلاَمِيذِهِ: كَانَ إِنْسَانٌ غَنِيٌّ لَهُ وَكِيلٌ فَوُشِيَ بِهِ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ يُبَذِّرُ أَمْوَالَهُ. فَدَعَاهُ وَقَالَ لَهُ: مَا هَذَا الَّذِي أَسْمَعُ عَنْكَ؟ أَعْطِ حِسَابَ وَكَالَتِكَ لأَنَّكَ لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَكُونَ وَكِيلاً بَعْدُ. فَقَالَ الْوَكِيلُ فِي نَفْسِهِ: مَاذَا أَفْعَلُ؟ لأَنَّ سَيِّدِي يَأْخُذُ مِنِّي الْوَكَالَةَ. لَسْتُ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْقُبَ وَأَسْتَحِي أَنْ أَسْتَعْطِيَ. قَدْ عَلِمْتُ مَاذَا أَفْعَلُ حَتَّى إِذَا عُزِلْتُ عَنِ الْوَكَالَةِ يَقْبَلُونِي فِي بُيُوتِهِمْ. فَدَعَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ مَدْيُونِي سَيِّدِهِ وَقَالَ لِلأَوَّلِ: كَمْ عَلَيْكَ لِسَيِّدِي؟ فَقَالَ: مِئَةُ بَثِّ زَيْتٍ. فَقَالَ لَهُ: خُذْ صَكَّكَ وَاجْلِسْ عَاجِلاً وَاكْتُبْ خَمْسِينَ. ثُمَّ قَالَ لِآخَرَ: وَأَنْتَ كَمْ عَلَيْكَ؟ فَقَالَ: مِئَةُ كُرِّ قَمْحٍ. فَقَالَ لَهُ: خُذْ صَكَّكَ وَاكْتُبْ ثَمَانِينَ. فَمَدَحَ السَّيِّدُ وَكِيلَ الظُّلْمِ إِذْ بِحِكْمَةٍ فَعَلَ لأَنَّ أَبْنَاءَ هَذَا الدَّهْرِ أَحْكَمُ مِنْ أَبْنَاءِ النُّورِ فِي جِيلِهِمْ.
وَأَنَا أَقُولُ لَكُمُ: اصْنَعُوا لَكُمْ أَصْدِقَاءَ بِمَالِ الظُّلْمِ حَتَّى إِذَا فَنِيتُمْ يَقْبَلُونَكُمْ فِي الْمَظَالِّ الأَبَدِيَّةِ. اَلأَمِينُ فِي الْقَلِيلِ أَمِينٌ أَيْضاً فِي الْكَثِيرِ وَالظَّالِمُ فِي الْقَلِيلِ ظَالِمٌ أَيْضاً فِي الْكَثِيرِ. فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا أُمَنَاءَ فِي مَالِ الظُّلْمِ فَمَنْ يَأْتَمِنُكُمْ عَلَى الْحَقِّ؟ وَإِنْ لَمْ تَكُونُوا أُمَنَاءَ فِي مَا هُوَ لِلْغَيْرِ فَمَنْ يُعْطِيكُمْ مَا هُوَ لَكُمْ؟ لاَ يَقْدِرُ خَادِمٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ الْوَاحِدَ وَيُحِبَّ الآخَرَ أَوْ يُلاَزِمَ الْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ الآخَرَ. لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا اللهَ وَالْمَالَ". (لو ١٦: ١-١٣)
في هذا النص الإنجيلي من إنجيل لوقا، نقف على أحد الأمثال التي قدَّمها لنا السَّيد الرَّبْ ليعطينا من خلالها تعاليمه المقدَّسة، وهذا المثل هو مثل الوكيل الخائن، هذا الوكيل الذي أقامه سَيّده على أموالهِ، فخان الأمانة ولم يحافظ على أموالِ سَيّده، فأخذ يتصرف بها وكأنها أمواله الخاصَّة، فبدَّدها وعاش بها في الخلاعةِ، فأصبحت هذه الأموال أموال حرام عليه. ولكن النص في ذات الوقت، يرينا حكمة ذلك الوكيل الخائن في التصرفِ للتخلص من قلّةِ أمانته، والحصول على الخلاص من عقاب سَيّده.
هذا السَيّد هو الله القدير. والوكيل الخائن هو كل واحد منّا، يعيش في هذا العالم على حسب شهواته، وشهوات العالم ومغرياته. فالله أعطى لكلِّ واحدٍ منّا أمانة، أو موهبة، أو حسبة خاصّة، وأقامنا وكلاء عليها، وطلب منّا أن نحافظ عليها ونستثمرها بالخير والصلاح. فمنّا مَن خان هذه الأمانة، وبدَّدها على ملذَّاته الشخصيّة، ومنّا من حافظ عليها، وتاجر بها التجارة الصالحة مع إخوته البشر، فأثمرت تجارته أضعاف مضاعفة.
في نهاية المثل نرى السَيّد الرَّبْ يقول لنا: "اصْنَعُوا لَكُمْ أَصْدِقَاءَ بِمَالِ الظُّلْمِ حَتَّى إِذَا فَنِيتُمْ يَقْبَلُونَكُمْ فِي الْمَظَالِّ الأَبَدِيَّةِ". (لو ٩:١٦) هذه الآية التي طالما حيَّرت الكثيرين من الناس، وجعلتهم يطرحون العديد من الأسئلة حول ما يقصده الرب يسوع المسيح منها! فيتساءل البعض ويقولون: هل يريد منّا الرَّبْ يسوع المسيح أن نشتري لأنفسنا أصدقاء بالمال؟ هل يريدنا أن نتّكل على أموالنا في حياتنا؟ وما المقصود بالمال الظلم؟
يُخبِرنا الإنجيل المقدَّس عن بعض المواقف التي حصلت مع أشخاص عدّة تشير إلى صنع الخير، ففي مثل السامري الرحيم، نرى الرَّبْ يسوع المسيح يطلب من عالم الشريعة أن يذهب ويصنع صدقة مع أحد فيرث الحياة الأبديَّة، وذلك عندما قال له: "اذهب فاعمل أنت أيضاً مثل ذلك" (لو ٣٧:١٠). ويقول لنا أيضاً في موضع آخر: "كل ما تفعلونه بأحد إخوتي هؤلاء الصغار بي أنا قد فعلتم" (متى ٤٠:٢٥).
وهنا أود أن أذكر هذه القصة المعبِّرة والتي تقول: يُحكى أنَّ مجموعة من الأشخاص كانت مسافرة في رحلة طويلة وشاقّة، وفي منتصف الليل والجميع يشعرون بالتعب والإنهاك، وإذا بصوت يخاطبهم قائلاً: عبوا في جيوبكم ما استطعتم من الحجارة! وأنا أعدكم غداً عندما تحطون رحالكم أن تتحوَّل هذه الحجارة إلى أشياءٍ ثمينة. هذه المجموعة من الأشخاص كانت تقسم إلى ثلاث أقسام، قسم منهم شكك في مصداقيّة الصوت الذي سمعوه، وقالوا هذا ضرب جنون، ونحن متعبون ومنهكون ولا نستطيع أن نحمل معنا شيء، فرحلتنا طويلة وشاقّة. وقسم آخر كان يتخبط بين أن يصدق الصَّوت أو يكذبه، فحملوا القليل من الحجارة، لعل يكون ذلك الصوت صادقاً فيتنعمون بما وعدهم به من الخير. أما القسم الثالث منهم فكان لديه كلّ الثقة بذلك الصَّوت، فملأ جيوبه ما استطاع من هذه الحجارة. وعندما انتهت الرحلة ووصلوا إلى المكان الذي كانوا يقصدونه، وبعد أن حطوا رحالهم واستراحوا من عناء السفر، تذكروا ذلك الصوت وتذكروا الوعد، فقالوا لبعضهم البعض دعونا نرى ما عسى أن تكون هذه الحجارة، وعندما رأوها أصابتهم الدَّهشة والحسرة، لأن تلك الحجارة تحولت إلى لآلئ ومجوهرات ثمينة.
إخوتي وأخواتي الأحبّاء، هؤلاء الأشخاص هم نحن البشر، والرّحلة، هي رحلة الحياة التي نعيشها على هذه الأرض، والحجارة هي كلمة الله لنا التي يجب علينا أن نجسدها بأعمالنا الصالحة، أعمال خير ومحبّة، نقوم بها في حياتنا تجاه إخوتنا البشر، هذه الأعمال التي تتحول إلى كنوز سماويّة، تخولنا للعيش مع الله في الملكوت. القسم الأول من الأشخاص الذي لم يثقوا بالصوت وبوعده لهم، هم الأشخاص الذين يعيشون في هذا العالم على حسب شهواتهم وشهوات العالم، يعيشون على حسب أنانيتهم الشخصيّة، بعيدين كل البعد عن الله وتعاليمه المقدَّسة، هم الأشخاص الذين يصفهم الرَّبْ الإله في مثل الزارع بأنهم على الطريق "هُمُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ، ثُمَّ يَأْتِي إِبْلِيسُ وَيَنْزِعُ الْكَلِمَةَ مِنْ قُلُوبِهِمْ لِئَلاَّ يُؤْمِنُوا فَيَخْلُصُوا". أما القسم الثاني فهم الأشخاص الذين كانوا يتخبطون بين العيش على حسب تعاليم الله، والعيش على حسب تعاليم العالم، وهؤلاء يصفهم أيضاً الرب يسوع المسيح في مثل الزارع بأنهم كالبزار الذي سقط "عَلَى الصَّخْرِ هُمُ الَّذِينَ مَتَى سَمِعُوا يَقْبَلُونَ الْكَلِمَةَ بِفَرَحٍ. وَهَؤُلاَءِ لَيْسَ لَهُمْ أَصْلٌ فَيُؤْمِنُونَ إِلَى حِينٍ وَفِي وَقْتِ التَّجْرِبَةِ يَرْتَدُّونَ". أما القسم الثالث، فهم الأشخاص المؤمنين الذين سمعوا كلمة الله وعملوا بها، وترجموها إلى أعمال صالحة، فكان لهم النصيب الصالح والمكافأة العظمى على إيمانهم وعيشهم على حسب كلمة الله ومشيئته، هؤلاء الذين يقول عنهم السيد الرب أنهم "الأَرْضِ الْجَيِّدَةِ هُوَ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْكَلِمَةَ فَيَحْفَظُونَهَا فِي قَلْبٍ جَيِّدٍ صَالِحٍ وَيُثْمِرُونَ بِالصَّبْرِ".
إخوتي وأخواتي الأحبّاء، هناك الكثير من الفقراء والمحتاجين في حياتنا، ليس لديهم ما يأكلون، أو يشربون، أو ما يلبسون. وهنا أسأل أليس هؤلاء هم إخوة الرب الصغار؟ أليس هؤلاء هم من أوصانا بهم السَيّد الرَّبْ؟ نعم هؤلاء هم إخوة يسوع الصغار ومن أوصانا بهم، وبخدمتهم والتفكير بحاجياتهم على مختلف أنواعها، يصبحون أصدقاء لنا، وشهود علينا في اليوم الآخر، عندما يحين وقت الحساب، ويُطلب منّا أن نؤدي الحساب عن وكالتنا. بهذا تصبح أموالنا التي نعيش ونتنعم بها في هذا الزمن أموال سماويّة، وتتحول أيضاً إلى كنوز سماويّة تُكنز لنا في السماء، تنفعنا عندما نغادر هذا العالم، وتخولنا للعيش مع الله في الملكوت. هذه هي الحكمة المطلوبة منّا أن يكون لنا أصدقاء سماويين، نشتريهم بالأموال التي بين أيدينا، عوضاً من أن نبدِّدها على ملذَّاتنا وشهواتنا، في عالم سنتركه عاجلاً أم آجلاً.
سيأتي اليوم، يوم الدينونة الرهيب، الذي فيه صاحب المواهب الله، سيطلب من كلِّ واحدٍ منّا ليقول: "أَعْطِ حِسَابَ وَكَالَتِكَ لأَنَّكَ لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَكُونَ وَكِيلاً بَعْدُ"، أي ستترك هذه الحياة الفانيّة وتنتقل إلى جوار الدّيان العادل. ولكن ما يجب علينا فعله في مثل هذه اللحظة الحاسمة؟ يرينا النص حكمة ذلك الوكيل الخائن، ويخبرنا كيف أنه صحا من غفلته وبدأ يفكر في إصلاح حاله! كم عليك؟ هو يعلم! ولكنه يسأل المديون حتى يشعره بأنه يُسدي إليه معروفاً. هذا ما يجب علينا فعله، ولا نقول أنَّ الوقت فات، بل نبحث عن من هم بحاجة لنصع معهم معروفاً، فيكون معروفنا هذا حجراً كريماً، لؤلؤة، تُكنز لنا في السماء، وهناك حيث يكون كنزنا يكون قلبنا، فنكون بذلك أبناء النور وأبناء النهار، أبناء الله المحبوبين، معلقين قلبنا بالله، ومتممين مشيئته في حياتنا، مبتعدين عن أبناء العالم، الذين قلوبهم معلقة بالأمور الدنيويّة، ويكنزون لهم كنوزاً على الأرض "يَا غَبِيُّ هَذِهِ اللَّيْلَةَ تُطْلَبُ نَفْسُكَ مِنْكَ فَهَذِهِ الَّتِي أَعْدَدْتَهَا لِمَنْ تَكُونُ؟" (لو١٢: ٢٠)، هؤلاء الذين سوف يفصلون عن الله ومحبَّتهِ، لأنهم لم يكونوا أمناء في حياتهم على المال الظلم، لذلك لا يمكن أن يأتمنهم على الخير الحقيقي، وسوف يطردون خارجاً لعدم أمانتهم، هناك حيث البكاء وصرير الأسنان، ولنكون حكماء كالحيّات، مفكرين في غَدِنا الصالح، ومستثمرين أموالنا بالخير والصلاح، لتكون لنا الضمان لحياتنا الأبديّة، وتخولنا أن نكون مع الرب دائماً، ونسمعه يقول لنا كنت أميناً على القليل، فسوف أقيمك على الكثير، ونرث الحياة الأبديّة بنعمة الآب والابن والروح القدس الإله الواحد. آمين.