عدد الزيارات : 2621
المقالات الأخلاقية 11 أيار 2016


الألم في المفهوم المسيحي 

الأب جان حنَّا

 نسمع الكثير عن الألم في حياتنا، وعن ضرورة تقبّلنا للألم. ولكن ما هو المفهوم المسيحي الصحيح للألم؟ وكيف يجب علينا كمسيحيين أن نتقبل الألم في حياتنا؟ 

الأب رافي حلاوة بطريركية الروم الكاثوليكتكثر التساؤلات في زمن الفصح المجيد حول هذا الموضوع، وهناك العديد من الأشخاص كانوا قد طرحوا عليَّ سؤالاً كان يشغل بالهم ويحيرهم وهو: لماذا اختار الله هذه الطريقة أعني "الألم" من أجل إتمام عمليّة الخلاص؟ وألم يكن هناك طريقة أخرى غير الألم، يمكن أن يخلصنا من خلالها؟ 

إذا تأملنا في مسيرة آلام ربنا يسوع المسيح الصامتة، وفي خضم ألمه الصامت، تظهر لنا الحقيقة الكبرى، ألا وهي محبَّة الله العظمى لنا نحن البشر، ومحبَّة الابن أيضاً الذي ارتضى أن يُضَحي بنفسهِ من أجلنا، منفِّذاً مشيئة أبيه السماويِّ، بكلِّ محبَّة وتواضع.  

هذا الألم، الذي قاد في النهايةِ إلى تمجيدِ ابن الإنسان، وإلى خلاص البشريَّة من الخطيئة الأصليَّة، ومهد للبشر طريق الخلاص، وفتح لنا أبواب الملكوت، ليعطينا درساً في حياتنا، من أجل تحمل الآلام لمجد الرَّبْ، لنتمجد نحن أيضاً بدورنا، من خلال آلامنا وبصمت، كما تحملها هو بصمت تام. (مثل شاةٍ سيق إلى الذبح، وكحملٍ لا عيب فيه أمام الذي يجزه، هكذا لم يفتح فاه).

  من مسيرةِ آلام ربنا يسوع المسيح، يتضح لنا، أن الألم مسيرة، يعيشها الإنسان في هذا العالم، بين إخوته البشر، وهذه المسيرة يجب أن تكون بصمت تام، على غرار مسيرة آلام ربنا يسوع المسيح. يجب أن تكون بصمت، لنستطيع أن نسمع صوت الله العظيم وهو يقول لنا "قد مجدت، وسأمجد".  

 يقول لنا آباءنا القديسين، أن الألم هو شيء مقدَّس في حياةِ الإنسان، وأن الألم هو النار التي تنقي النفس وتجعلها مستعدة للحب.

 من هنا نرى أنَّ الألم ليس مجرد إحساس وشعور مادي يشعر فيه الإنسان، يؤلمه ويعذبه. بل الألم الحقيقي، هو ذاك الألم النابع من المحبَّة. والمحبَّة لا تعرف الأنا، بل هي تساوي الآخر، أي تجعل منه مساوياً لها، وترى أن من دونه لا وجود لذاتها.  

والمحبَّة تُسخِر ذاتها لخدمة الجماعة. وهي تُضحي دوماً بصمت لكي يكون الآخر، وتكون له الحياة بوفرة. وهذا ما أراده السَّيد المسيح بمجيئه إلى هذا العالم.

 محبَّته دفعته إلى خدمة الآخرين وتأمين الخلاص لهم "لم آت لأُخدم بل لأخدم" (مت٢٠: ٢٨). لقد جاء كما قال: "وأما أنا فقد أتيت لتكون لهم الحياة، وليكون لهم أفضل" (يو١٠: ١٠). "جئت لتكون لهم الحياة، بل ملء الحياة". هذا ما أراده السَّيد المسيح من مجيئهِ إلى هذا العالم، أتى لتكون لنا الحياة بوفرة.  

 وإذا أردنا أن نذهب إلى أبعد من ذلك، لوجدنا أن المحبَّة الحقيقيَّة هي الموت من أجل سعادة الآخر. وهذا ما فعله السَّيد المسيح. فقد مات عن خطايانا، وحمل آلامنا وأوجاعنا، لكي يؤمّن لنا الحياة، ولكي تكون لنا الحياة أفضل وبوفرة.  

 الموت المطلوب منا نحن كمسيحيين، لا كما مات يسوع على الصليب من أجلنا، بل الموت المطلوب منّا هو التخلي عن الذات، والتعري الكلّي من الذات، حتى نستطيع أن نرتدي الآخر في حياتنا. الموت المطلوب منّا في هذه الحياة هو الصمت، لكي نستطيع أن نسمع صوت الإنسان المتألم والحزين والمحتاج إلى رحمة الله تعالى.  

الأب رافي حلاوة بطريركية الروم الكاثوليكالألم هو العماد الثاني الذي قبله السَّيد المسيح بصمت ورافقه حتى الجلجلة والصليب. ومن خلال هذا الألم حمل أوجاعنا بصمت، وفتح لنا أبواب الملكوت، وأعاد لنا الملك المعد لنا منذ إنشاء العالم، والذي فقدناه من جراء وقوعنا في الخطيئة.  

 لذلك، نحن بحاجة دائمًا، إلى الألم الصّامت، فهو الصديق المُنبّه والمُرشد والمحبّ. وهو الذي رافق يسوع إلى الجلجلة والصليب، وإلى حمل خطايا العالم والصعود إلى ذروة العار، فحمل أوجاعنا بصمت، وحوّل العالم برمّته إلى جنّة حبّ لا يُمكن أن تذبل ورودها.

يصور لنا أحد الآباء القدّيسين حال الإنسان، بابن ملك خسر بإرادته إرث أبيه، وطُرد خارج القصر، وصار في حالة يرثى لها من الذلِّ والعار. وفيما هو ضائع هنا وهناك، إذ بإنسانٍ يعيد له جميع حقوقه من ميراث أبيه ويعيده إلى ما كان عليه من عز وجاه. وهذا الإنسان هو الألم! هو النار التي تنقي النفس وتجعلها مستعدَّة للحب، ومستعدَّة أن تضحي من أجل الآخر.

 من هنا نفهم كلام السَّيد المسيح عندما قال: "لم آتِ لألقي على الأرض سلامً، بل ناراً". هذه النار هي نار المحبَّة المتألمة، نار الألم الجماعي الذي يغسل النفوس ويطهرها ويلبسها حلّة جديدة هي حلّة المسيح.  

دعوتنا نحن اليوم كمسيحيين موجودين في قلبِ هذا العالم الصعب، أن نكون كتلة واحدة مترابطة تشع بالمحبَّة والألم، لتصل إلى الفرح الحقيقي، ولنكون جميعنا واحد، وقلب واحد، وقولٍ واحد، حتى نستطيع أن نؤلف وحدة متناغمة نُشكل من خلالها جسداً واحداً، هو جسد السَّيد المسيح.  

دعوتنا أيضاً أن نلتفت نحو من يتألّمون بصمتٍ، لنمدَّ نحوهم يدًا صامتة مفعمة بالحبّ، فيكونون هم بدورهم مدرسة لنا في تحمّل الألم بصمت، والوصول إلى دويّ الحبّ الذي طالما عمل ويعمل بصمت.  

 هذا ما أراد أن يعلمنا إياه الله والرَّب يسوع المسيح من مسيرة آلامه الخلاصيّة، لكي نستطيع إذا ما عشنا مسيرة آلامنا بصمت، كما عاشها هو، ونحب إخوتنا البشر كما أحبَّنا هو، أن نعاين نور ومجد القيامة المقدَّسة، ونعبر معه إلى الملكوت، لنعاين وجه الله ونرث الملك المعد لنا منذ إنشاء العالم.  

 

تابع أيضاً

رح نرجع نعمرها

صاحب الغبطة وصاحب السيادة يحتفلان بالقداس الإلهي في كنيسة القدّيس ....

10 تشرين ثاني 2020
عيد القدّيسة صوفيا وبناتها إيمان ورجاء ومحبّة

صاحب الغبطة يحتفل بعيد القدّيسة ....

17 أيلول 2020
عيد الصليب المقدّس

صاحب الغبطة يحتفل بعيد الصليب المقدّس في بلدة معلولا - ريف ....

14 أيلول 2020
ميلاد السيّدة العذراء

صاحب الغبطة يحتفل بعيد ميلاد السيّدة العذراء في كاتدرائيّة ....

8 أيلول 2020
عيد رُقاد وانتقال السيّدة العذراء

صاحب الغبطة وصاحب السيادة والكهنة يحتفلون بعيد ....

15 آب 2020
نداء

صاحب الغبطة يوجّه نداء عالمي لدعم أهل بيروت عقب تفجير مرفأ بيروت

12 آب 2020
يوم افتقاد

صاحب الغبطة يتفقّد المتضرّرين من جراء كارثة مرفأ بيروت

8 آب 2020
عيد التجلّي

صاحب الغبطة وصاحب السيادة يحتفلان بقدّاس عيد تجلّي الرب في كاتدرائيّة ....

6 آب 2020
يا والدة الإله الفائقة القداسة خلصينا

صاحب الغبطة وصاحب السيادة يحتفلان بالقدّاس ....

2 آب 2020


تابعونا على مواقع التواصل الأجتماعي

© 2024 -بطريركية الروم الملكيين الكاثوليك