الإنجيل ورسالتنا
الأب جان حنَّا
"اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلموهم أن يحفظوا كل ما أوصيتكم به". (مت٢٨: ١٩- ٢٠)
هذا ما أوصى به الرَّب يسوع المسيح تلاميذه عندما أرسلهم في العالم منذ ألفي سنة، وهذا ما تعيشه الكنيسة المقدَّسة في هذا العالم كونها كنيسة مرسلة ولا يمكنها إلا أن تحيا كمرسلة.
على هذا الشكل فهم بولس الرسول الأشياء: "إذا ما بشرت فليس في ذلك مفخرة، لأنها فريضة لا بد لي منها، والويل لي إن لم أبشر" (١كو٩: ١٦).
يقول الأب لوباك: "إنها الضرورة غير المشروطة، والعرض دون مقابل، والدافع يأتي من الباطن. الويل لي إن لم أبشر، يالها من كلمة عميقة سريّة. لأن أقف عن التبشير، فذلك لأن المحبّة قد غادرتني".
حياتنا اليوميّة إذاً هي المحل العادي والطبيعي لعمل الرسالة. ويقع على عاتق كل إنسان مسيحي مسؤولية إيمان أو عدم إيمان الذين يلتقونه. ومن هنا نقول أن كل مؤمن هو بالضرورة رسول، ولديه واجب حمل الرسالة. رسالته هذه أتت من معموديّته، عندما قال نعم للرب، فإنه تتلمذ وأصبح رسول للسَّيد المسيح.
العذراء مريم عندما بشرها الملاك فقالت (نعم)، وهذه النعم كان لها تأثيرها على حياتها الشخصيّة، هذه النعم أوكَلت إليها مهمّة ورسالة مقدّسة، قامت بها في حياتها. كانت تحفظ كل كلمة كان يقولها الرَّب يسوع المسيح في قلبها، أي أنها كانت تحفظ الإنجيل في قلبها، وكانت تنقله للتلاميذ بكلِّ صدق وأمانة.
يقول القدّيس شارل دو فوكو: "كل وجودنا، كل كياننا، يجب أن ينادي بالإنجيل. جميع أعمالنا وكل حياتنا يجب أن تصرخ بأننا للمسيح، وتتحوّل إلى تبشير حي وانعكاس ليسوع".
إخوتي وأخواتي الأحباء، إن الإنجيل المقدَّس هو للقديسين وللخطأة في آنٍ معاً. والرَّب يسوع المسيح ائتَمن عليه بشر مثلنا، وأوكَل إليهم مهمّة إيصاله لنا.
تلك هي المخاطرة الهائلة التي خاطر بها السَّيد المسيح في منطق تجسده. والمعجزة الحقيقيّة إنما تقوم بأن الإنجيل باقٍ، بعد ألفي سنة من المسيحيّة، هو هو، حدثاً جديداً، مبدعاً، خصباً. فالمعجزة الحقيقيّة إنما تقوم بأن هناك كنيسة تحمل وتعلن ذاك الذي يدينها هي نفسها، كنيسة تتوب إلى ندائه وتهتدي. والذي يعمل الإنجيل فيه، يتيح الإنجيل له أن ينير العالم ويقدِّسه.
الإنجيل المقدَّس باقٍ لمنتهى الأزمنة. فله المستقبل كله، وهو يحتوي على كنوزٍ مازلنا نجهلها. والشوط الذي قطعناه يُظهر لنا أن الإنجيل هو عطيَّة من الله، وهو مهمّة أوكِلت إلينا في آنٍ معاً. فالإنجيل يدعو إلى أمانة خلاّقة، فكلِّ مرة ينظر المسيحيون إليه بعين الجد، فإنه يُكشف لهم إمكانات لا تنفذ. وعلينا في حياتنا أن ننطلق من فكرة أن الإنجيل مهمّة، ثم نحاول أن نميز مهام الإنجيل في زماننا الحاضر.
اختار يسوع الرسل ليجعل منهم رفاقه ويرسلهم للتبشير. أي ليكونوا نواة لشعب الله الجديد. ليكونوا رفاقه في توحيد العالم الذي بدأ حوله وبواسطته. فالغاية من تأسيسهم هي إرسالهم للتبشير، أي لدعوة جميع الناس إلى اخوّة أبناء الله الكبرى، "لقد أخذتم روح التبني. فهذا الروح عينه يشهد مع روحنا بأنّا أولاد الله" (رو٨: ١٥-١٦). هذا الرّوح الذي هو قدرة الله، التي ستدفع بالكنيسة إلى أقاصي المسكونة، "أنكم ستنالون قوة من العلاء بحلول الرّوح القدس عليكم، فتكونون شهوداً لي في ... إلى أقاصي الأرض" (اع ١: ٨). انتم شهود لي، أي (الشهادة أولاً)، اذهبوا و بشروا العالم، أي (البشارة ثانياً).
يقول غاندي: "إذا اهتدى إنسان إلى الله من خلال تعرّفه بالمسيح يسوع، عليه أن يعتمد، ويعلن للعالم، أنه من أتباع المسيح، وأن يشهد له طوال حياته، وإلا، فإنه لايتعدى كونه كذبة حية".
التبشير إذاً هو وصيّة المعلم الأخيرة قبل صعوده: "اذهبوا وبشروا كل العالم ..." وكلمة "اذهبوا" تعني أن تتحرك، أن تترك مكانك واستقرارك وخوفك، تعني أن تنطلق، وتمضي في هذا العالم معلناً كلمة الله وبشارته للبشر.
لاشك أن الجماعة المسيحيّة عاشت مشاكل كثيرة ومنها الاستهزاء بالبشارة، وغالباً ما كانت الآلام مرتبطة بالشهادة، "أنا يوحنا، أخاكم وشريككم في الضيق وفي الملكوت والصبر، في يسوع ... من اجل كلمة الله وشهادة ليسوع" (رؤ١: ٩-١٠). وأحيانا بالاستشهاد الذي هو شهادة الإيمان الممهورة بشهادة الدم. ولكن لم تقع يوماً في فخ المساومة مع المضطهد، بل كانت تعيش الأمانة، لأنها تعرف أن أمانتها جواب صغير على أمانة الرب العظمى. الرب كعادته لايُنافس في الحب. نعطيه بزرة فيفيض علينا حصاداً من النعمِ.
"كل من يهتم ولو قليلا بشخص يسوع يجد نفسه أمام تحدّ، يكشف إلى أيّة درجة يتحوّل كل تفكير، في التحقيق عن هذا الشخص، إلى مناداة. ويتوجّه إلى القلب والروح خاصة، إذ لايمكن إخفاء الحماس الذي تُثيره قضية يسوع". (هانس كونغ).
أن نشهد ليسوع ونبشر بحياته، هذا يعني أنه علينا أن نحيا بحسب الروح الذي أعطيناه. لأنه هو المعزي والمرشد، "إن كنا نحيا بالروح. فلنسلكن أيضا بحسب الروح" (غلا٥: ٢٥). فالروح الذي أفيض في قلب المسيحي فيصير مبدأ حياته، "أما ثمر الروح فهو المحبّة، والفرح، والسلام، وطول الأناة، واللّطف، والصلاح، والأمانة، والوداعة، والعفاف" (غلا٥: ٢٢-٢٣).
"إن إيماننا المسيحي هو دائماً حر. والقرار الشخصي ليكون الإنسان مع الله، ومع المسيح، هو القرار المسيحي الأساسي. هنا يكمن الاختيار بين أن يكون الإنسان مسيحيّاً أو أن لا يكون. إن اختار المسيح، فهذا يعني أنه اختار أن يعيش داخل الكنيسة التي تواصل عمل يسوع في العالم. وبإختصار من اتّبع المسيح حمل محمل الجد قضيّة يسوع المسيح". (هانس كونغ). و"عندما يعمل إنسان في سبيل هدف، تصبح مقاومته مستحيلة" (غاندي).
إذاً أنا حر في اختياري في أن أكون مع الله، أو أن لا أكون معه. ولكن إن اخترت أن أكون مع الله، فهذا يتطلب مني إلتزام بكل شروطه وتعاليمه التي وضعها لمتبعيه ومختاريه، لأكون أحد تلاميذه ومبشريه الأمناء.
يقول غاندي: "الإيمان لم يوجد لكي نتكلم عنه، بل لكي نحياه. وحينئذ سينتشر تلقائياً". أي لا يكفي أن نقول عن أنفسنا أننا مسيحيون، ولا يكفي أن نقول أننا مؤمنين بالله والرب يسوع المسيح وروحه القدّوس، بل يجب علينا أن نترجم إيماننا هذا لأفعال نقوم بها تجاه إخوتنا البشر، نعبر من خلالها عن إيماننا بالله، ليروا أعمالنا الصالحة، ويعرفوننا أن تلاميذ السَّيد الرَّب. بذلك نعطي أبهى شهادة، ونقوم بأكمل بشارة، وبذلك تُنشر كلمة الله من خلال أعمالنا من تلقاء نفسها.
اختم بكلمة وجهها غاندي للمبشرين المسيحيين: "تشبّهوا بالوردة. فالوردة تشدّ إليها الناس شدّاً لا يقاوم، والطريقة المثلى للتبشير بالإنجيل هي ممارسته، إنها الوسيلة الفضلى. في البدء، وفي منتصف الطريق، وفي نهاية الشوط. إنني أحب أولئك الذين لا يبشرون أبداً، ولكنهم يسلكون في الحياة وفقاً للأنوار الكامنة في أعماقهم، حياتهم صامتة ولكنها أكثر جدوى. إنها شهادة حيّة. ليس من تبشير أصدق من السلوك، لا بل ما من تبشير سوى السلوك وفق الإنجيل".
في النهاية أصلي وأطلب من الرب الإله، أن يمنحنا نعمة روحه القدّوس، وأن يعضد ضعفنا، لنكون شهود حقيقيين له في هذا العالم، من خلال محبتنا، وأعمالنا، فيشاهد جميع الناس أعملنا الصالحة، ويمجدوا أبانا الذي في السماء، بنعمة الله الآب والابن والرّوح القدس الإله الواحد. آمين.